شروق العبيدي بغداد
يشبه العراق اليوم خشبة مسرح تتبدل عليها المقاعد بسرعة، بينما يبقى النص الذي يعاد قراءته هو نفسه منذ سنوات طويلة.. الانتخابات انتهت، الوجوه تحرّكت، والكتل بدلت مواقعها، لكن الوجع الذي يسكن صدور العراقيين ما زال في مكانه، وكأنه المقعد الوحيد الذي لا تهزه العواصف السياسية.
قدم السياسيون حملاتهم في بلد يتجاوز فيه متوسط المشاركة الانتخابية حاجز 40% فقط، وهي نسبة تكشف حجم الفجوة بين الناس والنظام السياسي. لم يعد العراقي يصدق الكلام الذي يتكرر كل دورة، المواطن لم يذهب ليصنع انتصارًا لكتلة أو حزب، بل ذهب وهو يجر خلفه سؤالًا واحدًا، ..هل سيختلف القادم فعلًا؟
والجواب ما زال معلقًا بين الوعود والواقع.
رغم تغيّر الحكومات، بقيت معادلة الاقتصاد العراقي تحكمها ثلاثة أرقام ثابتة:
– اعتماد مالي على النفط بنسبة تتجاوز 92% من الإيرادات العامة.
– بطالة شبابية تتراوح بين 25–30%.
– فقر يقترب في بعض المحافظات من 35%.
تبديل المقاعد لن ينتج اقتصادًا جديدًا، إذا بقيت الدولة عاجزة عن بناء صناعة، أو زراعة، أو قطاع خاص قادر على توظيف مليون شاب يدخلون سوق العمل كل ثلاث سنوات.
بقاء الاقتصاد بهذا الشكل يعني أن أي أزمة نفطية قادمة قد تعيده إلى نقطة الصفر خلال أسابيع.
الخدمات… الملف الذي تواطأت الحكومات على تجاهله. كل الحكومات وعدت بالكهرباء، لكن المواطن ما زال يشتري الأمبيرات في صيف تصل حرارته إلى 50–52°، خطة الكهرباء التي قيل إنها ستحل خلال “سنة واحدة” لم تُنجز بعد أكثر من 15 سنة من التعهدات.
وفي قطاع المياه والصرف الصحي، ما يزال أكثر من 30% من التجمعات السكانية بلا شبكات متكاملة.
الخدمات ليست أزمة مال، بل أزمة إدارة، فساد، وتداخل صلاحيات لا يريد أحد إصلاحها.
الأمن… استقرار هش تحكمه التوازنات
على الورق، العراق بلد “مستقر”
لكن خلف المشهد:
– انتشار السلاح خارج الدولة ما زال موجودًا.
– بعض المناطق لا تزال تعتمد في أمنها على تفاهمات محلية لا على مؤسسات قوية.
– التوترات السياسية قادرة على تحويل الهدوء إلى اضطراب خلال أيام قليلة.
وجود قوة أمنية موحدة وقرار سيادي مستقل ليسا ترفًا… بل شرط لقيام دولة طبيعية، تبديل الوجوه لن يغير الحكومة إذا بقيت بنية الدولة مربوطة بالمحاصصة، أكثر من 70% من مواقع القرار تمنح بالتوازن السياسي، لا بالكفاءة. هذه الشبكة العميقة من المصالح تجعل أي إصلاح يولد مكسور الجناح قبل أن يبدأ.
السؤال الحقيقي ليس “من فاز؟”بل من سيتحمل مسؤولية تغيير جذري لا ترقيع مؤقت؟
اما بعد التصويت، فاختبار شفاف لمدى استعداد الدولة لمواجهة الحقائق الصعبة …
– تفكيك الفساد الذي يبتلع ما يقارب 15% من الموازنة سنويًا حسب تقديرات الخبراء.
– بناء اقتصاد متنوع لا ينهار مع كل انخفاض في برميل النفط.
– إعادة الثقة بين المواطن ومؤسسات الحكم.
– إنهاء فوضى السلاح وتوحيد القرار الأمني.
– إصلاح الإدارة من جذورها لا من واجهتها.
الوجع ليس قدراً… الوجع الذي لم يتبدل ليس لعنة على البلاد، بل نتيجة لصراع مصالح أطال عمر الأزمات، أما المقاعد التي تبدلت، فهي خطوة ناقصة إذا لم تتبدل معها طرق التفكير، وأسلوب الإدارة، وفلسفة السلطة نفسها.
العراق اليوم لا يحتاج وعودًا جديدة، بل جرأة في اتخاذ القرار، ونزاهة في التنفيذ، وإرادة تضع مصلحة الشعب فوق أي تفاهم سياسي، وحين تتحقق هذه الشروط عندها فقط، يمكن أن تتبدل المقاعد ويتبدل معها الوجع، ويبدأ المسرح بعرض جديد يستحق أن يسمع.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن