بيوار داخاز
في ليلة ثقيلة، كانت ألسنة اللهب المتصاعدة من حقل غاز كورمور في السليمانية_ إقليم كوردستان، إعلانًا صريحًا عن أزمة تتجاوز حدود الطاقة. هجومٌ حمل دلالات أمنية وسياسية واقتصادية، وارتدّ أثره سريعًا على حياة أكثر من ستة ملايين ونصف المليون مواطن في إقليم كوردستان، ليضرب مشروع الاستقرار الكهربائي الذي عمل عليه الإقليم لأشهر طويلة عبر مشروع "روناكي" الذي حقق لأول مرة في العراق نظام تجهيز شبه مستمر على مدار اليوم.
الضربة لم تطل منشأة غازية فحسب؛ بل أصابت المسار اليومي للمواطن، حيث تعتمد محطات توليد الكهرباء بشكل كامل على الغاز الخارج من كورمور. ومع توقف الضخ، باتت ساعات تجهيز الكهرباء تتراجع بشكل حاد، عائدة إلى حدود غير مألوفة بعد أشهر من التحسن الملحوظ. وهنا تظهر الصورة الأكثر قسوة للأزمة، تلك التي لا تُقاس بالأرقام بل بالوجوه التي يغمرها ظلامٌ غير مُبرر.
تصور.. مريض في غرفة العناية يفتح عينيه بصعوبة ويسأل: "لماذا انقطعت أجهزة التنفس؟"
امرأة في غرفة العمليات تهمس بخوف: "هل ستتوقف الأجهزة في منتصف ولادتي؟"
طالب يُنير كتبه بهاتفه المحمول يتساءل: "كيف أكمل حلمي من دون ضوء؟"
هذه ليست مبالغات صحفية؛ إنها الانعكاس الفوري لضربة استهدفت بنية تحتية حياتية، وليست عسكرية. هي امتدادٌ لسلسلة ضغوط تبدأ بقطع الرواتب، وتمر بالتضييق الاقتصادي، وتصل إلى تعطيل الخدمات الأساسية، في محاولة لخلق واقع مضطرب يضع تجربة الإقليم الناجحة في دائرة الاستهداف، خصوصًا مشروع الكهرباء المستقرة الذي بات يمثل اختلافًا واضحًا عن باقي مناطق العراق.
وفي خلفية المشهد، يطفو سؤال أثقل من الدخان المتصاعد من الحقل: من يتحكم بساعة الظلام؟ ومن يختار توقيت الهجمات؟
التحليلات المتداولة تؤكد أن التوقيت ليس صدفة. الاعتداءات تتزامن غالبًا مع مفاوضات تشكيل حكومات اتحادية أو مع ملفات خلافية بين بغداد وأربيل، وتُستخدم كأدوات ضغط سياسية لإجبار الإقليم على تقديم تنازلات، أو كرسائل عقابية على مواقف معينة. ثمة من يرى أن استهداف مشروع "روناكي" لا ينفصل عن منافعات الطاقة في العراق، وعن الصراع بين مشاريع الاستقرار ومشاريع الفوضى.
وعلى الرغم من مواقف الإدانة الصريحة التي صدرت عن رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني ورئيس الحكومة مسرور بارزاني ونائبه قوباد طالباني، يبقى السؤال الأكثر حساسية: أين تقف الحكومة الاتحادية، صاحبة المسؤولية الدستورية المباشرة عن حماية السيادة؟ خصوصًا مع وجود فصائل مسلحة تعمل خارج القانون، لكنها تتحرك تحت مظلات رسمية أو شبه رسمية، وتتمتع بنفوذ يجعل من ملاحقتها مهمة معقدة. كيف تُدان الجهة التي قد تكون مرتبطة بالمؤسسات نفسها؟ وكيف يطلب المواطن الأمن من أجهزة قد تكون عاجزة عن حماية منشأة غازية تُشغّل نصف مرافق الإقليم؟
أما دوليًا، فقد جاءت الإدانات واسعة ومنسّقة: سفارات، قنصليات، ومبعوثون دوليون يتقدمهم مبعوث الرئيس الأميركي الذي دعا بغداد إلى تحديد المسؤولين عن الهجوم وتقديمهم للعدالة، مؤكدًا دعم الولايات المتحدة لإقليم مستقر ضمن عراق موحد.
وبرغم أهمية هذه المواقف، فإنها تُظهر حجم التهديد أكثر مما تُخففه، وتكشف هشاشة الأمن الاقتصادي في العراق الذي ما زال عرضة للاهتزاز أمام صاروخ واحد.
لكن أسئلة أخرى تطرح نفسها، لكنها تختزل بهذه الإجابات.. بأنها محاولة لتقويض فرصة عراقية نادرة في بناء قطاع طاقة مستقر، وفرصة للإقليم في تحقيق اكتفاء كهربائي وأنموذج تنموي مختلف. هو اختبار لإرادة الحياة في مواجهة قوى الظلام التي تريد للعراق أن يبقى عالقًا في دوامة الأزمات.
وتبقى المعادلة مفتوحة: هل ستستمر الإنارة وتنتصر إرادة البناء؟ أم سينجح العنف السياسي في خطف الأنفاس وتعطيل الأحلام؟.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن