في كل دورة سياسية جديدة، يدخل العراق معادلة مختلفة من التحديات، لكن اللحظة الراهنة أشدّ تعقيداً لأنها تجمع بين عنصرين متناقضين ظاهرياً: قوى سياسية تمتلك شرعية انتخابية داخلية، وفي الوقت نفسه أسماء مدرجة على لوائح العقوبات الأميركية والدولية. هذا التداخل بين الشرعيتين — الداخلية والخارجية — يجعل مهمة تشكيل الحكومة المقبلة أكثر حساسية من أي وقت مضى، ويفرض على الجميع إعادة التفكير في طريقة إدارة الدولة قبل أن يصبح العراق نفسه جزءاً من ميدان العقوبات.
فالناخب العراقي قد يمنح ثقته لكتل تضم شخصيات معاقَبة، فتدخل البرلمان بصفة قانونية كاملة. لكن المجتمع الدولي، ولا سيما الولايات المتحدة، لا يتعامل مع هذه الشخصيات بوصفها ممثلين شرعيين داخل النظام السياسي، بل كـ(أصول مجمّدة) ينبغي تجنّب التعامل معها. هنا ينشأ التوتر الذي يُهدد مؤسسات الدولة ذاتها: فإذا تولّى شخص خاضع للعقوبات وزارة سيادية، فإن أي علاقة دولية أو مصرفية مع تلك الوزارة قد تُعدّ (تعاملاً مع جهة محظورة)، ما قد يؤدي إلى عقوبات ثانوية تطال الدولة كلها، من المصارف إلى التجارة وحتى سمعة العراق المالية.
هذه ليست مشكلة حكومة أو كتلة معيّنة، إنها مشكلة وطنية. فالعقوبات حين تنتقل من الأفراد إلى المؤسسات، لا تضرب حزباً أو فصيلاً، بل تضرب الموظف والخباز والمعلم والمزارع وكل مواطن يحتاج دولة مستقرة وعلاقات دولية مفتوحة.
من هنا يصبح الحلّ أكثر وضوحاً: تمثيل سياسي للجميع، مع حماية الدولة من أن تكون هدفاً للعقوبات. أي أن تتفق القوى السياسية، بما فيها الأطراف المعاقَبة، على قاعدة وطنية محددة: (لا نضع الدولة في موضع العقاب الدولي بسبب خيارات تكتيكية أو رغبة في فرض أسماء استفزازية في مواقع حساسة). يمكن لهذه القوى أن تشارك بفاعلية داخل البرلمان، وأن تسهم في صناعة القرار، وأن تدفع بمرشحين من داخل صفوفها، شريطة أن لا يكونوا شخصيات ملاحقة دولياً، حفاظاً على المصالح العليا للعراق.
وللخروج من هذه الإشكالية، لا بدّ من ثلاث مقاربات متزامنة. المقاربة الأولى داخلية، تقوم على تثبيت مبدأ أن الدولة هي الخط الأحمر، وأن الوزارات السيادية يجب أن تكون بعيدة عن أي اشتباك مع العقوبات الدولية، ليس إرضاءً للخارج، بل حماية للاقتصاد والسوق والمصارف وحركة التجارة. نحن نحتاج إلى حكومة ذات واجهات قادرة على التحرك دولياً، قادرة على فتح الأبواب لا إغلاقها، وقادرة على التفاوض لا التصادم.
أما المقاربة الثانية فهي مأسسة القرار الأمني وضبط السلاح. فجزء كبير من العقوبات يرتبط بسلوك فصائل في ساحات إقليمية، وبخلط بين (الدولة) و(الفعل المسلح) خارج الحدود. كلما كان قرار القوة محصوراً بيد الدولة، وكلما تم تنظيم وضع الفصائل ضمن أطر قانونية واضحة، انخفضت احتمالات أن يتحول العراق إلى ساحة رسائل بين القوى الدولية، أو أن يُقدّم للعالم على أنه بلد غير منضبط يجعل العقوبات أداة ضغط دائمة.
والمقاربة الثالثة هي الحوار الدبلوماسي الهادئ مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. على العراق أن يذهب إلى العالم بواقعية: نحن بلد معقّد، لدينا قوى سياسية واسعة الشعبية لكنها خاضعة للعقوبات، ولدينا مصلحة وطنية عليا في ألا تتحول هذه العقوبات إلى حصار اقتصادي. مقابل ذلك، يمكن للحكومة الجديدة أن تقدّم التزامات قابلة للقياس: منع استخدام الأراضي العراقية في الصراعات الإقليمية، ضبط السلاح المنفلت، وإصلاح مؤسسات الدولة بطريقة تقلّل من احتمالات الاحتكاك الدولي.
بهذه المقاربات يمكن للعراق أن يخرج من الحلقة المفرغة. فالمطلوب ليس إلغاء الأوزان السياسية داخل البرلمان، ولا إقصاء أي طرف من المشاركة، بل هندسة واقع سياسي يحترم نتائج الانتخابات ولا يعرّض البلاد لخطر العقوبات. المطلوب حكومة (ممكنة دولياً وواقعية داخلياً)، تحافظ على السيادة دون مغامرة، وتفتح أبواب العلاقات الدولية دون تنازل، وتعيد تعريف دور العراق في المنطقة كجسر توازن لا كساحة صراع.
إن المستقبل القريب يحمل كثيراً من التعقيدات، لكن لدينا فرصة نادرة لإعادة ترتيب الأولويات: الدولة أولاً، ومصلحة العراقيين فوق أي حسابات. فإذا اتفقت القوى السياسية على هذا المبدأ، تحوّل التحدي إلى فرصة، والأزمة إلى نقطة بداية جديدة، والداخل والخارج إلى مسارين يمكن التوفيق بينهما دون أن تدفع البلاد ثمناً باهظاً مرة أخرى.
"المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب و ليس بالضرورة عن رأي الوسيلة الإعلامية"
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن