د. طالب محمد كريم
مع افتتاح منتدى الشرق الأوسط في دهوك، بدا واضحاً أن لحظة سياسية مختلفة تتشكّل في العراق. ليست الكلمات التي أُلقيت مجرد صدى للمواقف التقليدية التي تكررت في مناسبات مشابهة، بل حملت إشارات تكشف عن تحوّل في لغة الخطاب، وفي طريقة قراءة القادة لطبيعة المرحلة التي يمر بها البلد. فالمشهد الذي ظهر في اليوم الأول أعاد ترتيب الأسئلة، ورفع منسوب المكاشفة، وجعل من المنتدى مساحة لطرح قضايا أعمق من مجرد التفاصيل الإدارية والمالية التي تهيمن عادة على النقاشات بين بغداد وأربيل.
اللافت أن القادة السياسيين من مختلف أطياف العراق تحدثوا بنبرة أقرب إلى الاعتراف بأن الأزمة لم تعد أزمة ملفّات مؤجلة أو نزاعات نفطية ورواتب أو خلافات إجرائية بين المركز والإقليم، بل أزمة تتعلق ببنية الدولة نفسها. فالدستور الذي يُفترض أن يكون مرجعاً ملزماً عاد إلى الواجهة هذه المرة ليس بوصفه وثيقة سياسية، بل بوصفه معياراً لاختبار شكل الدولة: هل هي اتحادية بالفعل أم مركزية بثوب اتحادي؟ هذا السؤال الذي ظل لسنوات خلف الجدار، أصبح مطروحاً في اليوم الأول بصوت واضح وإن كان حذراً.
وفي المقابل، ظهر أن الإقليم، رغم تحدياته الداخلية، يتجه نحو مراجعة أعمق لأسس تنظيمه السياسي والدستوري، في محاولة لإعادة ضبط موقعه داخل النظام الاتحادي. فخطاب اليوم الأول بدا أقرب إلى الدعوة لتصحيح المسار بدل الاكتفاء بتوصيفه، وإلى العمل على إعادة بناء العلاقة مع بغداد عبر مقاربة قانونية ودستورية أكثر وضوحاً. وهو ما يشير إلى أن السنوات المقبلة قد تكون ساحة تفاوض مختلفة، لن تقوم على منطق (الحلول المؤقتة)، بل على أساس إعادة تعريف العلاقة بين بغداد والأقليم بطريقة أكثر ثباتاً.
كما كشف اليوم الأول أن القوى السياسية خارج الإقليم بدأت تتحرك بخطاب جديد، خطاب يقلّل من نبرة الصراع الهوياتي، ويبدو أكثر ميلاً للحديث عن مفاهيم الشراكة الوطنية وإعادة بناء الثقة بين المكونات. هذا التحول، وإن لم يكن مكتملاً، يشير إلى أن الوعي السياسي صار أكثر إدراكاً لضرورة تجاوز انقسامات السنوات الماضية، خصوصاً مع تزايد التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي لم يعد ممكناً إدارتها بذات الأدوات التقليدية.
المنتدى، في يومه الأول، أعطى انطباعاً بأن العراق يتجه نحو مرحلة سياسية تتطلب قراءة جديدة. الكلمات لم تكن معزولة عن سياقها الإقليمي والدولي، ولا عن التحولات التي يشهدها العالم، من صعود المركزيات إلى تراجع فاعلية الأنظمة اللامركزية، ومن اشتداد التنافس الإقليمي إلى أزمة الثقة العامة بالمؤسسات. كل ذلك ألقى بظلاله على الخطاب، وفتح الباب أمام تساؤلات أكبر: هل يتجه العراق نحو إعادة إنتاج نموذج إداري وسياسي جديد؟ وهل تستثمر الأطراف فرصة اللحظة لإعادة صياغة التوازن بين السلطة والدستور؟
اليوم الأول لا يقدّم إجابات نهائية، لكنه يقدّم إشارات عميقة تقول إن الخطاب السياسي العراقي بدأ يتحول من لغته القديمة إلى لغة أكثر واقعية وأقل صدامية، وأكثر إدراكاً لحجم التحديات التي يعيشها البلد. وما سيأتي في الأيام المقبلة من جلسات ومناقشات سيكشف ما إذا كان هذا التحول مجرد نبرة افتتاحية، أم بداية عودة جدية إلى مسار إصلاح سياسي طال انتظاره.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن