Erbil 28°C الجمعة 05 كانون الأول 08:47

لا وطن مع الطائفية

الاستمرار في نهج المحاصصة والسياسات القائمة على الانقسام أثبت فشله، وأدى إلى تشظي المجتمع، وتمزيق نسيجه، وإعاقة بناء دولة قوية قادرة على مواجهة التحديات

مشتاق الربيعي

يمرّ العراق اليوم بمرحلة حسّاسة تحتاج إلى قرارات جريئة ومراجعات واقعية لكل ما تراكم خلال السنوات الماضية. وفي مقدمة هذه المتطلبات يأتي كسر حاجز الطائفية، الذي أصبح ضرورة وطنية لا يمكن تأجيلها، لأن استمرار هذا النهج كلّف البلاد الكثير وأعاق بناء الدولة الحديثة القادرة على احتضان جميع أبنائها دون تمييز.

إن المجلس النيابي الجديد أمام اختبار تاريخي يتمثل في ضرورة تشريع قانون شامل وصارم يجرّم الطائفية بجميع أنواعها، سواء كانت خطابًا إعلاميًا تحريضيًا، أو ممارسة سياسية إقصائية، أو تمييزًا إداريًا يخلّ بالعدالة والمساواة. فالدولة التي تخضع لمنطق الطوائف لا تستطيع أن تكون دولة مواطنة تحترم حقوق مواطنيها ولا أن تؤسس لاستقرار اجتماعي طويل الأمد. لذا بات تشريع قوانين تحمي المجتمع من هذا الخطر المتجذّر ضرورة لا غنى عنها لردع كل من يسعى لتغذية الانقسام أو استثماره سياسيًا.

لقد عاش العراقيون خلال العقود الماضية آثارًا مريرة للطائفية، فقد ساهمت في إضعاف مؤسسات الدولة، وعمّقت الانقسام الاجتماعي، وشرّعت أبواب التدخلات الخارجية، وأفقدت المواطن ثقته بالنظام السياسي. كما وضعت جدرانًا غير مرئية بين أبناء الشعب الواحد، وأهدرت الكفاءات، وحرمت الكثيرين من حقوقهم وفرصهم بسبب انتماءاتهم أو مناطقهم. وهذه الحقائق وحدها كافية لتؤكد أن محاربة الطائفية واجب وطني وأخلاقي، لا مجرد خطوة سياسية.

إن كسر حاجز الطائفية ليس مهمة حكومية فقط، بل هو مشروع وطني شامل يحتاج إلى مشاركة الجميع: مؤسسات الدولة، المؤسسات الدينية، الإعلام، المدارس، الأسرة، والنخبة الثقافية. يحتاج إلى خطاب معتدل يرسّخ قيم المواطنة، وإلى سياسة تعليمية تربي الأجيال على الاحترام والتعايش، وإلى إرادة سياسية صادقة تضع مصلحة العراق فوق كل اعتبار.

إن الاستمرار في نهج المحاصصة والسياسات القائمة على الانقسام أثبت فشله، وأدى إلى تشظي المجتمع، وتمزيق نسيجه، وإعاقة بناء دولة قوية قادرة على مواجهة التحديات. كما ساهم في تهديد السلم الأهلي وخلق فجوات نفسية واجتماعية لا يمكن ردمها إلا بمشروع وطني جامع يعيد شتات المجتمع ويقوّي روابطه.

وإن شرع المجلس النيابي والحكومة الجديدة قانونًا واضحًا وصارمًا يُجرّم الطائفية، فسيكون ذلك من أعظم القوانين التي سُنّت منذ سقوط النظام البائد وحتى يومنا هذا. فهو ليس مجرد نص تشريعي، بل خطوة تاريخية تعيد الاعتبار للهوية الوطنية الجامعة، وتؤسس لعراق جديد متحرر من الانقسامات، يعامل أبناءه وفق الكفاءة لا الطائفة، ووفق المواطنة لا المحاصصة.

إن العراق اليوم أمام فرصة حقيقية لبناء مستقبل مختلف، مستقبل يقوم على العدل والمساواة ووحدة المجتمع. ولا سبيل لتحقيق ذلك دون القضاء على الطائفية بكل أشكالها، فالوطن الذي تُقسّمه الطوائف لا يمكن أن ينهض أو يستقر. ومهما تعددت الانتماءات، يبقى العراق هو الهوية الكبرى التي تجمع الجميع، وهو البيت الذي لا يكتمل إلا بتعزيز المواطنة وإعلاء قيمة الإنسان بوصفه شريكاً في الوطن والمستقبل.
 

الأخبار

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات حتى الآن

الرد كضيف

هل ترغب في تلقي إشعارات؟
ابق على اطلاع بآخر أخبارنا وأحداثنا.