Erbil 28°C الجمعة 05 كانون الأول 08:47

دجلة الخير… ليست بخير

رغم خطورة الموقف، لا تزال الإجراءات الحكومية خجولة

لم يكن دجلة يومًا مجرّد نهر، بل روح حضارة وذاكرة وطن وهوية شعب، من ضفافه ولدت أولى المدن، وازدهرت الزراعة، وتفتحت على مياهه أبواب المعرفة والتاريخ.

دجلة ليس ماءً يجري، بل شريان حضاري حمل رسالة الرافدين إلى العالم، وارتبط في الوجدان العراقي بالخصب والحياة والشعر والموسيقى وأغاني الفراتيين.

لكن اليوم، دجلة الخير لم يعد بخير. يضيق مجراه وتخفت نبضاته، وكأن التاريخ يختنق على مرأى من أبنائه. مياه تتراجع، أراضٍ تتصدع، نخيل يذبل، وقرى كانت تنبض بالحياة أصبحت تبحث عن قطرة ماء.

هذه ليست أزمة عابرة، بل مشهد واضح لحرب مياه تُدار بصمت، وبُعدٍ استراتيجي يستهدف العراق في أمنه القومي ووجوده الزراعي والحضاري. إنها حرب من نوع جديد، لا رصاص فيها ولا مدافع، لكن نتائجها أشد قسوة وتدميرًا.

ورغم خطورة الموقف، لا تزال الإجراءات الحكومية خجولة، وكأن الزمن ينتظر، وكأن الأرض يمكن أن تتسامح مع عطشها، لم نتعامل مع الملف بوصفه ملف أمن وطني، ولم نُدِر الأزمة بمنهجية دولة تُدرك موقعها وثقلها التاريخي.

لقد كان على الحكومات المتعاقبة أن تستثمر في بناء السدود وإدارة الموارد المائية وإنشاء مشاريع حصاد المياه وتحديث منظومات الري، بدل الاعتماد على ما تجود به الطبيعة، وجيران لا يضعون سوى مصالحهم في الحسبان. واليوم ندفع ثمن الإهمال والتأخر والتردد.

تداعيات الأزمة لا تقف عند حدود نقص المياه فقط، بل تمتد:

                •             تهديد الأمن الغذائي وفقدان مساحات زراعية واسعة

                •             هجرة قروية متزايدة نحو المدن

                •             تدهور الثروة الحيوانية والسمكية

                •             تفاقم ظواهر التصحر والعواصف الترابية

                •             انعكاسات اجتماعية واقتصادية خطيرة

أمام كل ذلك، ينبغي للحكومة العراقية أن تتبنى موقفًا حازمًا ومسؤولًا، يبدأ بالحوار والدبلوماسية الهادئة، ويمر بالاستناد إلى الاتفاقيات الدولية وقوانين الأنهار العابرة للحدود، ولا ينتهي بالضغط الاقتصادي ووقف التبادل التجاري إن اقتضى الأمر. فسيادة العراق وحقوقه المائية ليست مجالًا للمجاملة، ومصلحة الشعب فوق كل اعتبار.

الماء ليس ترفًا، بل حياة. ودجلة ليس نهرًا كبقية الأنهار؛ إنه رمز وطن، وعنوان حضارة، وشاهد على تاريخ البشرية. وما يحدث اليوم ليس مجرّد نقصٍ في المياه، بل كارثة تمس الإنسانية والتاريخ والحضارة، وجرح في قلب كل عراقي يعرف قيمة هذا النهر العظيم.

فدجلة الذي علّم الدنيا معنى الحضارة… يستصرخ أبناءه اليوم كي يحموه من النسيان والجفاف، قبل أن نصحو على حقيقة مُرّة مفادها أن النهر الذي كتبنا عنه القصائد، لم يعد سوى ذكرى في ذاكرة بلدٍ يشرب الحنين بدل الماء.

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات حتى الآن

الرد كضيف

هل ترغب في تلقي إشعارات؟
ابق على اطلاع بآخر أخبارنا وأحداثنا.