الفصل الأول: الجبل الذي يتكلم
في حضن الجبال التي تعانق السماء، وتهدهد الريح بحكاياتٍ قديمة، وُلد الكوردي كأنما خُلِق من صخرٍ يأنّ بالحياة.
بين الثلج والنار، بين القصيدة والرمح، وُلدت أمةٌ لم تعرف الخضوع إلا لقوانين الطبيعة.
تتوزّع أرضه بين جبال زاغروس وطوروس، بين أرواحٍ لا تعرف السكون.
لا حدود تفصلهم إلا ما خطّته السياسة، ولا قيد يربطهم إلا ما صنعوه من شرفهم.
الكورد ليسوا أحفاد الجبل فحسب، بل هم صوته المعلّق في الريح.
يقول الشاعر الكوردي القديم:
“أنا من بلادٍ كلُّ غيمةٍ فيها تنادي باسم أمي،
وكلُّ حجرٍ فيها يعرف أني لم أرحل.”
تلك الجبال لم تكن موطنًا فحسب، بل معبدًا للنور، وساحةً للصبر، ومهبطًا للأغنية.
فيها تعلّم الإنسان أن الحرية ليست شعارًا، بل شرط الوجود ذاته.
الفصل الثاني: النار التي لم تنطفئ
منذ فجر التاريخ، حين كانت القبائل تسبّح للنور وتخاف من ظلمةٍ بلا نهاية، قدّس الكورد النار لا كرمزٍ للعقاب، بل طريقًا إلى النقاء.
في دياناتهم القديمة كـ"الزرادشتية" و"اليزدانية" و"الإيزيدية"، كانت النار تمثّل صفاء الروح وبقاء الحقيقة.
النور عندهم ليس ضدّ الظلمة فقط، بل هو تجلٍّ للمعرفة، لذلك وُلد من رحم تلك العقيدة التسامح؛
فكل ضوءٍ من مشكاةٍ واحدة، وكل إنسانٍ له نصيبٌ من النار المقدّسة التي في القلب.
قال أحد حكمائهم:
“حين يشتعل القلب بالحب، لا حاجة له بمعبدٍ ولا كاهن.”
وهكذا ظلّت النار مشتعلة — لا في المعابد وحدها، بل في الصدور، كأنهم يقولون للعالم:
لسنا أمةً تحرق، بل أمةٌ تضيء.
الفصل الثالث: لغات الريح وأغاني الأرض
اللغة عند الكوردي ليست وسيلة كلام، بل ذاكرة الجبل.
يتحدثون الكرمانجية والسورانية والزازاكية والهورامية، لكنهم جميعًا يفهمون لغة واحدة: لغة الحنين.
كل لهجةٍ نايٌ يشدو من فم الريح، وكل كلمةٍ أثرُ خطوةٍ في دربٍ طويل.
قال الشاعر أحمد خاني في “مم و زين”:
“ما خُلقت الحروف لتفصلنا،
بل لتوحّد أرواحنا بما لا يُقال.”
حمل الكورد لغتهم كما يحمل العاشق اسم محبوبه، صانوها في الأغاني والقصائد والأمثال،
ورافقتهم في المنافي كأنها قطعةٌ من القلب.
حتى في صمتهم، لغتهم تُنشد.
إنها الهوية التي لم تخنها الذاكرة،
وصدى الحلم الذي لم يخمده المنفى.
الفصل الرابع: الجمال الذي يسكن النار
في الشعر الكوردي، الجمال ليس زينة العين، بل صلاة القلب.
يقول أحد شعرائهم:
“جذوة الحسن غدت بردًا عليك،
وسناها في القلوب اتقدا،
مذ بدى لاهبها في وجنتيك،
وجد القلب على النار هدى،
لا ألوم الفرس فالقصد إليك،
حين للنيران خرّوا سُجّدا"
العشق عندهم طريق إلى معرفة الذات،
والجمال وسيلة للسموّ لا للزينة.
الشعر مرآة الروح لديهم، يغنون للحب كما يغنون للوطن،
ويكتبون عن الفقد كما يكتبون عن الولادة.
فمن يكتب عن الألم، إنما يزرع الأمل في الحروف.
الفصل الخامس: رسالة إلى الإنسان الكوردي… وإلى من يراه
يا ابن الجبل، يا من خُلقت من صخرٍ لا يلين، ومن نبعٍ لا يجفّ،
اعلم أن كرامتك لا تُمنح، بل تُستعاد، وأن لغتك ليست من الماضي، بل من المستقبل.
يا من رقصت على الحزن كي لا يكسرك،
وأنشدت في ليالي المنفى كأنك تُنشد للسماء،
اعلم أن العالم يراك، لكنك وحدك تعرف من أنت.
لسنا هنا لنكتب تاريخ الكورد،
بل لنكتب معنى الإنسانية في وجه التاريخ.
الكوردي ليس ضحية الحدود،
بل ابن الأرض التي تأبى أن تُختصر بخطٍّ على خريطة.
أيها الكورد، أنتم مرآة الإنسان حين يكون صادقًا مع ترابه.
من جبالكم وُلدت حكاية الصبر،
ومن لغتكم تفتّحت زهرة الشعر الأولى،
ومن ناركم تعلّم العالم أن النور لا يُشترى.
احملوا إرثكم كبركةٍ لا كعبء،
وافتحوا قلوبكم كما فتحت جبالكم أبوابها للغريب والجائع.
“ليس فينا من يريد حربًا،
كلنا نبحث عن مكانٍ نغني فيه بسلام.”
الفصل السادس: كاوه الحداد… ونوروز الذي لا يغيب
في الذاكرة الكوردية، يولد الأبطال من رحم النار لا من عروش الذهب.
وكاوه الحداد — ذلك الرجل الذي حمل المطرقة بيدٍ، والكرامة بالأخرى — كان وجه النار حين صارت حرية.
تحكي الأسطورة أنه عاش في زمن الملك الجائر ضحّاك، الذي جعل على كتفيه حيّتين لا تهدآن إلا بأكل أدمغة البشر.
فلما عمّ الظلم واشتدّ البلاء، خرج كاوه من بين الدخان، ورفع مطرقته في وجه الطغيان، وصاح صرخته التي دوّت بين الجبال:
“كفى!”
ومن تلك الصرخة وُلد نوروز — اليوم الجديد، والفجر الذي لا يُطفأ.
في الحادي والعشرين من آذار، يوقد الكورد النار على رؤوس الجبال، لا لعبادةٍ ولا عادة، بل لتجديد العهد:
أن الظلم لا يدوم، وأن الليل مهما طال، لا بدّ أن يُهزم بالنور.
نوروز ليس عيدًا فحسب، بل بيان وجودٍ.
إنه تذكار أن الإنسان خُلق ليكون حرًّا، وأن المطرقة حين تُرفع بالحق، تصنع وطنًا من ضوء.
النار التي أوقدها كاوه لم تخمد، لأنها ليست نارًا من حطب، بل من وعيٍ وكرامةٍ وشمسٍ لا تغيب.
تتوهّج في رقصاتهم وأغانيهم، في عيون نسائهم وصدور أطفالهم، كأنها تقول:
“ما دامت المطرقة بيد الحداد، لن تُغلق أبواب النور.”
كاوه لم يمت، لأنه يولد في كل روحٍ ترفض الظلم،
وفي كل يدٍ ترفع شعلة العدالة بصدقٍ وإيمان.
وهكذا يبقى نوروز وعدًا سرمديًا بأن الكورد — ما داموا يغنون ويصمدون —
سيبقون أبناء الجبل والنار،
يحملون مشعل الحرية، ويضيئون للإنسانية طريقها.
“النور لنا، والمستقبل لمن يصنعه بيديه"
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن