Erbil 28°C الجمعة 05 كانون الأول 08:47

إيران بين القوة الصلبة والمرونة الغائبة.. قراءة في تآكل النفوذ الإقليمي  

صلاح الحسيني

منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، تبنّت إيران نهجًا يقوم على “المقاومة” و“تصدير الثورة” بوصفهما ركيزتين لشرعيتها الداخلية وموقعها الإقليمي.

لكن بعد أكثر من أربعة عقود، يبدو أن هذا النهج، الذي اتكأ على القوة الصلبة وشبكات الوكلاء الإقليميين، بدأ يفقد فاعليته ويكشف عن عجز بنيوي في فهم المصلحة الوطنية الإيرانية.

في زمن تتغير فيه موازين القوة وأساليب التأثير، لم تعد الشعارات الثورية ولا الأذرع المسلحة أدوات ناجعة لصناعة النفوذ، بل أصبحت عبئًا يستهلك موارد الدولة ويشوّه صورتها.

القوة الصلبة: سلاح ذو حدّين

منذ الثمانينيات، اعتمدت طهران على بناء منظومة من “القوى الموازية” في دول الجوار، مثل حزب الله في لبنان، الحشد الشعبي في العراق، الحوثيين في اليمن، وفصائل أخرى في سوريا وغزة.

هذا النموذج منحها مكاسب تكتيكية سريعة، أهمها: خلق عمق دفاعي يمنع الصدام المباشر مع خصومها، وامتلاك أوراق ضغط في ملفات إقليمية متعددة، لكن الثمن كان باهظًا:

استنزاف اقتصادي ضخم في ظل عقوبات خانقة وتدهور داخلي.

تآكل الشرعية الإقليمية بسبب التمدد الطائفي والتدخل في شؤون الدول.

فقدان السيطرة على الوكلاء الذين بات بعضهم يتحرك وفق مصالحه الخاصة، لا وفق أوامر طهران.

تحولت أدوات النفوذ من رصيد استراتيجي إلى عبء سياسي واقتصادي يصعب إدارته.

المرونة الغائبة

السياسة الإيرانية تعاني من “التيبّس الثوري” — أي الإصرار على المواجهة الدائمة ورفض أي تعديل في المسار، في عالم السياسة، المرونة ليست ضعفًا بل ذكاء استراتيجي. فالماء — كما قال الحكماء — يخترق الحجر بقطراته المتواصلة، بينما الصخر الصلب ينكسر من أول صدمة.

إيران اختارت أن تكون صخرة تواجه الجميع، فبدأت تتشقق من الداخل وتنكسر مكانتها خارجيًا تحت ضغط الزمن والواقع.

نتائج النهج المتصلب:

1. تدهور اقتصادي داخلي: الريال الإيراني فقد أكثر من 95% من قيمته خلال عقدين، وتراجعت مستويات المعيشة بشكل حاد.

2. عزلة سياسية متزايدة: حتى الحلفاء الإقليميون أصبحوا يتعاملون مع طهران بحذر وريبة.

3. فقدان التأثير الشعبي: الشعوب في العراق ولبنان واليمن باتت تنظر إلى النفوذ الإيراني بوصفه تدخلاً لا دعماً.

4. تآكل أدوات الردع: الإفراط في استخدام الوكلاء جعل القوة الإيرانية “مبعثرة” بدل أن تكون مركزة.

منهج الماء: بديل القوة الصلبة

إيران تمتلك إمكانات حضارية وثقافية ضخمة لو اختارت طريقًا مختلفًا — طريق المرونة والتعاون بدل الصدام والتوسع العسكري.

منهج “الماء” يعني:

1. استخدام القوة الناعمة (الثقافة، التعليم، الاقتصاد) بدلاً من السلاح والميليشيات.

2. فتح قنوات متعددة تجمع بين الحوار والردع الذكي.

3. جعل المصلحة الوطنية فوق الشعارات الثورية.

فالماء لا يواجه الصخر بالقوة، بل بالتسلل واللين والتراكم؛ وبذلك ينتصر في النهاية.

الخلاصة والتوصيات

بعد أربعة عقود من التجارب، أثبتت الوقائع أن القوة الصلبة وحدها لا تبني نفوذًا مستدامًا، وأن الاعتماد المفرط على الأذرع المسلحة جعل إيران تبدو دولة تُصدّر الأزمات أكثر مما تُصدر الاستقرار. ولكي تستعيد مكانتها، لا بدّ من تحوّل استراتيجي عميق يقوم على ثلاث ركائز:  إعادة تعريف الأمن القومي بمنطق المصلحة لا العقيدة، تحويل “تصدير الثورة” إلى “تصدير الاستقرار”، بناء علاقات على أساس المصالح لا الولاءات المذهبية، تقليص الاعتماد على القوى الموازية تدريجيًا، وتحويلها إلى مشاريع مدنية واقتصادية خاضعة للرقابة، والاستثمار في القوة الناعمة عبر إطلاق مبادرات ثقافية وإعلامية تخاطب الشعوب العربية بلسان الاحترام والشراكة، وتعزيز الدبلوماسية الاقتصادية عبر اتفاقات ومشروعات تنمية مشتركة وإعادة توجيه جزء من ميزانية الحرس الثوري نحو مشاريع إقليمية مدنية، كما يجب تبني المرونة السياسية والتدرج عبر اعتماد التفاوض المرحلي مع القوى الكبرى والجيران، وإدارة الأزمات بدل تصديرها، والحفاظ على التوازن بين الردع العسكري والدبلوماسية المرنة.

إيران تقف اليوم أمام مفترق حاسم، إما أن تبقى حجرًا صلدًا ينتظر المطرقة، أو أن تتحول إلى ماءٍ يتكيّف ويتسلل بصبر وذكاء عبر مسامات الجغرافيا والسياسة، القوة ليست في الصلابة، بل في البقاء. والمستقبل لا يُكتب بالصراخ الثوري، بل بفن التوازن والعقلانية

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات حتى الآن

الرد كضيف

هل ترغب في تلقي إشعارات؟
ابق على اطلاع بآخر أخبارنا وأحداثنا.