Erbil 28°C الجمعة 05 كانون الأول 09:23

التفاوض بين مدرسة روجر فيشر (هارفارد) ومنهج الإمام علي (ع): مقاربة بين العقلانية والأخلاق

تؤكد التجربة الإنسانية أن المجتمعات التي تتقن التفاوض هي الأقدر على حل نزاعاتها سلميًا، وصناعة الاستقرار، وتحقيق التنمية

مقدمة: أهمية التفاوض في حياتنا

التفاوض ليس حكرًا على الساسة أو الدبلوماسيين، بل هو جزء أساسي من حياتنا اليومية. فنحن نتفاوض في الأسرة بين الآباء والأبناء، وفي العمل بين الموظف والمدير، وفي السوق بين البائع والمشتري، وحتى داخل النفس حين نوازن بين الرغبات والقيم.

إنه فن البحث عن حلول وسط، وبناء الجسور، وتجنب الصدام. وقد أصبح اليوم علمًا له مناهجه ونظرياته، يدرّس في كبرى الجامعات ويُطبَّق في أعقد النزاعات الدولية.

وتؤكد التجربة الإنسانية أن المجتمعات التي تتقن التفاوض هي الأقدر على حل نزاعاتها سلميًا، وصناعة الاستقرار، وتحقيق التنمية. ومن هنا تأتي أهمية دراسة مدارس التفاوض، وفي مقدمتها مدرسة هارفارد بقيادة روجر فيشر ووليام يوري، إلى جانب منهج الإمام علي (عليه السلام) الذي يجمع بين السياسة والقيم.

أولًا: مدرسة روجر فيشر (هارفارد)

فصل الأشخاص عن المشكلة.

التركيز على المصالح لا المواقف.

الاعتماد على معايير موضوعية.

الإبداع في توليد الخيارات.

تطوير BATNA: أفضل بديل في حال فشل التفاوض.

هدف المدرسة: اتفاق مربح للطرفين (Win–Win) يقلل احتمالات عودة النزاع.

ثانيًا: منهج الإمام علي (عليه السلام)

العدل أساس التفاوض: لا مساومة على الحق.

الشفافية والصدق: رفض الغدر والخداع.

إعطاء الخصم حقه: حتى المعارض له مكان طالما التزم السلم.

الحوار بالحُسنى: إقناع لا إكراه.

التنازل في الوسائل لا في المبادئ.

اعتماد الشورى ورفض الاستبداد.

هدف المنهج: إقامة العدل وحفظ الكرامة.

ثالثًا: أمثلة عملية حديثة

1. جنوب أفريقيا: الصراع العنصري

المشكلة: نظام الأبارتايد الذي ميّز البيض ضد السود.

الحل: مفاوضات بين مانديلا وحكومة دي كليرك، انتهت بإلغاء الفصل العنصري (1994).

المزج بين المدرستين:

من هارفارد: فصل الأشخاص عن المشكلة، البحث عن مصالح مشتركة.

من الإمام علي: العدل والمساواة، العفو بدل الانتقام (لجنة الحقيقة والمصالحة).

2. الأزمة الأيرلندية (The Troubles)

المشكلة: نزاع بين الكاثوليك القوميين والبروتستانت الوحدويين (1968–1998).

الحل: توقيع اتفاق الجمعة العظيمة (1998).

المزج بين المدرستين:

من هارفارد: التركيز على المصالح المشتركة، استخدام BATNA.

من الإمام علي: الحوار بالحُسنى، العدالة، الاستفتاء كأداة للشورى.

رابعًا: المقارنة بين المدرستين

مقارنة بين مدرستين في فن التفاوض
تختلف مدرستا هارفارد والإمام علي (ع) في فن التفاوض من حيث المرجعية والأهداف والأدوات، مما يؤثر على طبيعة الاتفاقات ونتائجها.

1. مدرسة هارفارد (فشر/يوري):

المرجعية: تعتمد على نهج علمي-عملي يهدف إلى تحقيق أقصى مكاسب ممكنة للطرفين.

الهدف: تسعى للوصول إلى "اتفاق مربح للطرفين" (Win-Win).

الأدوات: تستخدم أدوات مثل BATNA (أفضل بديل لاتفاق تفاوضي)، ووضع معايير موضوعية، والابتكار في إيجاد حلول جديدة.

إدارة الصراع: تركز على فصل الأشخاص عن المشكلة، وتجنب الخوض في المشاعر الشخصية أثناء التفاوض.

حدود التنازل: تعتبر التنازل أمراً ممكناً في المواقف العملية لتحقيق الهدف النهائي.

أثر الاتفاق: تهدف إلى تحقيق استقرار عملي يعزز المصالح المشتركة.

2. مدرسة الإمام علي (ع):

المرجعية: تقوم على أساس أخلاقي-شرعي يضع القيم والمبادئ فوق كل اعتبار.

الهدف: تسعى إلى تحقيق "اتفاق عادل يحفظ الكرامة" لكل الأطراف.

الأدوات: تعتمد على مبادئ مثل الصدق، والشورى، والحُسنى في التعامل مع الآخر.

إدارة الصراع: ترفض الغدر وتؤمن بضرورة إعطاء الخصم فرصة، حتى في أصعب الظروف.

حدود التنازل: تعتبر التنازل غير ممكن في المبادئ والأخلاق الأساسية.

أثر الاتفاق: تهدف إلى تحقيق استقرار قيمي وأخلاقي يعكس المبادئ العليا.

خاتمة

التفاوض ليس مجرد تقنية لحل الأزمات، بل هو فن العيش المشترك وصناعة السلام. فمن مدرسة هارفارد نتعلم الأدوات العقلانية العملية، ومن مدرسة الإمام علي نتعلم الأسس الأخلاقية والعدلية. وإذا جمعنا بينهما، كما في تجارب جنوب أفريقيا وأيرلندا الشمالية، يمكننا بناء سلام عادل، عملي، ومستدام.
 

الأخبار

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات حتى الآن

الرد كضيف

هل ترغب في تلقي إشعارات؟
ابق على اطلاع بآخر أخبارنا وأحداثنا.