مقدمة: صوت الإصلاح
في مدينة البصرة، حيث تختلط رائحة النفط بمرارة الفساد، وُلدت حكاية تحولت إلى صرخة سياسية مدوّية. إنها قصة "بان زياد"، أستاذة علم النفس التي لم تكن مجرد أكاديمية، بل مشروع إصلاحي مدني يهدد أركان منظومة الفاسدة. دخلت ساحات العلم والوعي وهي تحمل حلم التغيير، ومع كل محاضرة وورشة عمل، كانت تزرع بذور التمرد على الجهل والتهميش، وتحمل همّ المرأة والطفل والتعليم الابتدائي. "بان" لم تكن أستاذة وحسب، بل كانت قيادية مدنية تتحدى الصمت، وترفع شعار الإصلاح في وجه سلطة غارقة في الاستبداد.
شخصية استثنائية
لم يكن تميزها في مضمون محاضراتها وأفكارها الإصلاحية فحسب، بل أيضاً في أسلوبها الإنساني المؤثر. فقد كانت تُتقن لغة الجسد، فتستخدم حركات يديها لتقريب المعنى، وتزين خطابها بابتسامة واثقة، وتصمت عند اللحظة المناسبة لتدفع الجمهور للتفكير، وتُبرز بعفوية علامات التعجب والاستفهام لتوقظ العقول. وهكذا جمعت بين قوة الفكرة وجمال الأسلوب، فتركت أثرًا عميقًا في كل من حضر محاضراتها.
حضور محلي ودولي
إلى جانب حضورها المحلي المؤثر، حملت "بان" رسالتها إلى المنابر الدولية. فقد شاركت في مؤتمرات علمية خارج العراق، وقدمت أوراقًا بحثية تناولت قضايا التعليم والتنمية البشرية، وأكدت أن إصلاح التعليم الابتدائي هو الحجر الأساس في بناء المجتمعات. لم تكن باحثة تقليدية، بل ربطت بين البُعد النفسي والاجتماعي في معالجة مشكلات المرأة والطفل، مما جعل صوتها مميزًا في ساحات النقاش الأكاديمي. وفي كل مرة كانت تقف أمام جمهور عالمي، كانت تمثل العراق كـ "سفيرة للفكر الحر والإصلاح المدني"، لتثبت أن المرأة العراقية قادرة على أن تكون رائدة محليًا ودوليًا.
وقد كانت بان تقول دومًا لطلابها وزميلاتها: "الحقيقة لا تُشترى، والكرامة لا تُساوم. قد يدفع المرء حياته ثمنًا لها، لكنها تبقى أثمن من كل شيء."، وكأنها كانت ترسم بوعيها وصيتها الأخيرة قبل أن تُغتال.
بداية الصراع
لكن هذه الحقيقة لم تعجب حكام اليوم. المدان "ضرغام عبد السالم التميمي" شقيق زوجة المحافظ أسعد العيداني، ارتكب جريمة قتل مروّعة بحق زميلته الدكتورة سارة العبودة. وحين صدر بحقه حكم الإعدام، تحركت خيوط السياسة والمال لإنقاذه. رُسمت خطة بائسة: تقرير طبي يزعم أن القاتل مختل عقليًا. وُضعت بان ضمن اللجنة الطبية، لكنها رفضت أن تخون رسالتها. رفعت صوتها: "كيف أصفه بالمجنون وهو أستاذ جامعي يكتب ويعلّم؟. هنا انكشفت حدود الصراع: "امرأة ضد منظومة سياسية ملوثة".
الرشوة والتهديد
منذ تلك اللحظة، تحولت إلى هدف مباشر للسلطة. عُرضت عليها الرشاوى، جرى الضغط عليها بالتهديد والوعيد، أُرسلت الوفود لتليين موقفها. لكنها واجهت الجميع بصلابة نادرة: لا توقيع على باطل. عندها دخلت السلطة مرحلة الإجرام العاري.
لحظة الاغتيال
في ليلة حالكة، اقتادتها قوة تابعة لعائلة المحافظ، تعرضت للضرب والإهانة ثم خُنقت حتى الموت بأوامر مباشرة. ولإخفاء الحقيقة، صُنعت مسرحية رخيصة: جثة في الحمام، يدان مشروحتان، وعبارة بالدم على الباب: "أريد الله". الرواية الرسمية: "انتحرت".
الشارع يثور
لكن الشعب لم يبتلع الكذبة. خرج الشارع محتجًا، رفض رواية السلطة، ورفع صور بان في التظاهرات. ارتفعت الهتافات في البصرة وبغداد: "بان زياد قُتلت لأنها قالت لا". القضية لم تعد جريمة فردية، بل تحولت إلى *فضيحة سياسية* تكشف زواج المال بالسلطة، وتواطؤ القضاء المسيس الذي انحاز للجلاد ضد الضحية.
تحديثات من الميدان
اليوم، وبعد مرور عدة أيام على اغتيال بان زياد، ما زال الشارع العراقي يغلي. فقد انطلقت تظاهرات في بغداد والبصرة وأربيل وديالى، قادها ناشطون وأكاديميون ونساء رفضا للرواية الرسمية. رفعت صور بان في الساحات كشعار للعدالة، وتحولت كلماتها الأخيرة ومواقفها إلى شعارات يهتف بها المتظاهرون.
منظمات حقوق الإنسان العراقية والدولية طالبت بإعادة فتح الملف، مشيرة إلى دلائل جنائية تتعارض مع فرضية الانتحار، مثل آثار الاختناق والكدمات. كما صرّح محامون مستقلون بضرورة تشكيل لجنة تحقيق دولية، في ظل انعدام الثقة بالقضاء المحلي الذي أغلق القضية سريعًا تحت ضغط سياسي واضح.
الموقف الرسمي
الحكومة، من جانبها، تواصل الصمت أو إصدار بيانات شكلية، فيما يزداد الاحتقان الشعبي الذي يرى في دم بان رمزًا يتجاوز حدود الجريمة الفردية، ليصبح "قضية وطنية" تمس كرامة المجتمع كله. وبات اسم بان يتردد في اللافتات والجداريات، مؤكداً أن دمها لن يضيع.
نداء إلى المجتمع الدولي
إن قضية بان زياد لم تعد محلية فحسب، بل غدت امتحانًا لمصداقية المنظومة الحقوقية العالمية. لذلك فإن على المنظمات الدولية:
- إرسال بعثات تقصي حقائق محايدة.
- الضغط على السلطات العراقية لإعادة فتح التحقيق.
- إدراج الجريمة في تقارير حقوق الإنسان السنوية.
- حماية الشهود والناشطين المطالبين بالعدالة من بطش السلطة.
النهاية المفتوحة
إن اغتيال بان زياد ليس حادثة معزولة، بل عنوان لصراع أمة مع منظومة فساد ودكتاتورية متغلغلة. لقد تحولت بان إلى رمز سياسي، شهيدة الحقيقة التي فضحت المحافظ وزوجته وأخاها، وأسقطت ورقة التوت عن قضاء مسيّس وحكومة فاشلة. تبقى صورتها لافتة في الساحات، ويبقى دمها جرس إنذار للشعب.
إن دم بان يسأل اليوم كل عراقي: "هل تقبل أن يقتل صوت الإصلاح؟ هل تصمت على دكتاتورية متسترة بالقانون".
الوقت لم يعد للتفرج، بل للتحر ك:
- لتُشكَّل لجنة تحقيق مستقلة تكشف القتلة أمام الملأ.
- ليتحرك الشارع بالملايين كما فعل من قبل، وليصرخ في وجه الفاسدين: "لن نترك دم بان يضيع".
- لتُدوّل القضية إن لزم، حتى لا ينجو القتلة بحماية نفوذهم".
بان زياد ليست مجرد اسم، إنها "قضية وطن. وإن مستقبل العراق لن يُبنى إلا على دماء الشهداء الشرفاء، وعلى إصرار الأحياء الذين يرفضون الاستسلام: لا للفساد، لا للدكتاتورية، نعم للعدالة والحرية".
فالإنسان خَلقه الله حرًّا، وليس لأي بشر أن يمنّ عليه بالحرية.
(هذا المقال يعبّر عن رأي الكاتب ووجهة نظره)
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن