Erbil 28°C الجمعة 05 كانون الأول 09:22

تأثير البيئة على عودة اللاجئين إلى سوريا.. بين مخلفات الحرب والتدهور البيئي

إن فهم العلاقة بين التدهور البيئي والنزوح القسري يفتح الباب أمام رؤية أوسع لأهمية العدالة البيئية في مرحلة ما بعد النزاع، ويؤكد أن إعادة الإعمار لا تقتصر على إعادة بناء المباني، بل يجب أن تبدأ من إصلاح علاقة الإنسان بالأرض التي ينتمي إليها

نجاح هيفو

منذ اندلاع الحرب في سوريا، تغيّر وجه البلاد بشكل جذري، ليس فقط على الصعيدين السياسي والاقتصادي، بل أيضاً على المستوى البيئي الذي غالباً ما يُهمل في التحليلات والتقارير. لقد تسببت سنوات النزاع المسلح في دمار هائل طال الإنسان والمكان، وخلّف وراءه آثاراً بيئية مروّعة، جعلت من مسألة عودة اللاجئين تحدياً أكبر مما يُتصوّر.

فعندما نتحدث عن عودة ملايين السوريين الذين نزحوا داخلياً أو لجأوا إلى الخارج، لا يكفي أن نطرح سؤال: "هل الوضع الأمني يسمح بالعودة؟"، بل لا بد أن نتساءل: "هل البيئة في سوريا باتت صالحة للحياة؟". المخلفات الحربية المنتشرة، تلوث المياه، انعدام المساحات الخضراء، قطع الأشجار، تآكل التربة، وندرة الموارد الأساسية، كلها عوامل بيئية تمثل عوائق حقيقية أمام عودة آمنة وكريمة للسكان.

إن فهم العلاقة بين التدهور البيئي والنزوح القسري يفتح الباب أمام رؤية أوسع لأهمية العدالة البيئية في مرحلة ما بعد النزاع، ويؤكد أن إعادة الإعمار لا تقتصر على إعادة بناء المباني، بل يجب أن تبدأ من إصلاح علاقة الإنسان بالأرض التي ينتمي إليها.

أولًا: مخلفات الحرب وتلوث البيئة

الحرب خلّفت كميات هائلة من الأنقاض والذخائر غير المنفجرة والمخلفات السامة. هذا الدمار البيئي لا يظهر فقط في المدن المدمرة، بل يمتد إلى الريف والأراضي الزراعية والموارد الطبيعية.

تلوث التربة نتيجة الانفجارات والمعادن الثقيلة والمواد الكيميائية يعيق الزراعة ويؤثر على المحاصيل.

تلوث المياه بسبب اختلاط المياه الجوفية بالوقود والمخلفات الصناعية والعسكرية، ما يهدد الصحة العامة.

الهواء الملوث بالدخان والغبار السام الناتج عن القصف والحرائق يؤثر على الجهاز التنفسي، خاصة بين الأطفال والمسنين.

هذه المشكلات تجعل من العودة إلى المناطق المتضررة مغامرة محفوفة بالمخاطر، وتزيد من التهديدات الصحية والبيئية للنازحين والعائدين على حد سواء.

ثانياً: قطع الأشجار وتدمير الغابات

تسببت الحرب في كارثة بيئية تمثلت بقطع آلاف الأشجار وتجريف الغابات، خاصة في المناطق الجبلية والغنية بالحياة البرية. لجأ كثير من السكان إلى قطع الأشجار للتدفئة أو الطهي، في ظل غياب الوقود والكهرباء.

التصحر وتآكل التربة ازدادا نتيجة تراجع الغطاء النباتي.

فقدان التنوع البيولوجي نتيجة تدمير الموائل الطبيعية.

ارتفاع درجات الحرارة المحلية بسبب اختفاء الغابات التي كانت تنظم المناخ وتمنع الرياح الجافة.

هذا الانهيار البيئي يضرّ بسبل العيش الزراعية، ويهدد مستقبل الأجيال القادمة التي ستنشأ في بيئة منهكة وغير متوازنة.

ثالثًا: الحدائق والمساحات الخضراء… من المتنفس إلى الخراب

الحدائق العامة والمساحات الخضراء التي كانت تشكّل جزءاً من حياة المدن السورية، تحولت إلى أطلال أو ساحات معارك. في بعض المدن، استُخدمت الحدائق كثكنات أو مواقع للقصف، وتم تدميرها أو إهمالها بالكامل.

انعدام الأماكن الآمنة للترفيه ينعكس سلباً على الصحة النفسية، خاصة للأطفال.

العجز عن استعادة الروح المجتمعية في المدن المدمرة بيئياً.

تراجع الإحساس بالانتماء في ظل غياب المساحات الجمالية التي كانت جزءاً من الذاكرة الجمعية للسكان.

رابعاً: أزمة المياه – تهديد يومي

تشهد سوريا واحدة من أسوأ أزماتها المائية في تاريخها، بفعل الحرب والتغير المناخي وسوء الإدارة. دُمرت محطات الضخ، وجفت ينابيع، وتلوّثت مصادر المياه. بعض المناطق تعتمد على شاحنات خاصة لجلب مياه غير مأمونة.

نقص مياه الشرب يعرض الناس لأمراض كالكوليرا والتيفوئيد.

تعذر ريّ الأراضي الزراعية يؤدي إلى تدهور الإنتاج الزراعي والنزوح من الريف.

الصراعات على مصادر المياه قد تؤجج التوترات بين المجتمعات المحلية.

عودة اللاجئين دون ضمان حقهم في الحصول على مياه نظيفة وآمنة، هو أشبه بإعادتهم إلى بيئة غير صالحة للعيش.

خامساً: البيئة كشرط أساسي للعودة الكريمة

لا يمكن تصور عودة اللاجئين إلى سوريا بمعزل عن الواقع البيئي. فالعدالة البيئية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من العدالة الاجتماعية والإنسانية. لذلك، يجب أن تشمل خطط إعادة الإعمار ما يلي:

إزالة مخلفات الحرب والذخائر غير المنفجرة من المناطق السكنية والزراعية.

إعادة تأهيل الغابات والمساحات الخضراء وتشجيع مشاريع التشجير المجتمعي.

استثمار في البنية التحتية البيئية مثل محطات معالجة المياه وشبكات الصرف الصحي.

تعزيز الوعي البيئي من خلال برامج تربوية وتنموية.

عودة اللاجئين لا تتحقق بالأمن فقط، بل بالكرامة، والكرامة لا تكتمل إلا ببيئة نظيفة، صحية، وآمنة.

سوريا اليوم ليست فقط بلداً جريحاً سياسياً واجتماعياً، بل أيضاً بيئياً. وإذا كنا نأمل في مستقبل أفضل لهذا الوطن، فإن أولى الخطوات تبدأ من مداواة جراح البيئة. فالطبيعة التي تحملت ويلات الحرب قادرة على التجدد، ولكنها بحاجة إلى رعاية ودعم وتخطيط بيئي عادل.

إن إعادة اللاجئين ليست مجرد عملية نقل، بل هي مشروع حياة، ولا يمكن لهذه الحياة أن تستمر في بيئة ملوّثة ومهجورة. لذلك، يجب أن تكون البيئة حاضرة في قلب كل قرار يتعلق بمستقبل سوريا.

الأخبار

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات حتى الآن

الرد كضيف

هل ترغب في تلقي إشعارات؟
ابق على اطلاع بآخر أخبارنا وأحداثنا.