لا شك أن زيارة رئيس جمهورية إيران الإسلامية، مسعود بزيشكيان، إلى إقليم كوردستان تُعتبر حدثًا تاريخيًا، إذ إنها الأولى من نوعها على هذا المستوى الرفيع، وتأتي في وقت حساس بالنسبة للمنطقة، وتحمل في طياتها إشارات ودلالات رمزية عميقة. لم تكن زيارة بروتوكولية اعتيادية فحسب، بل شهدت مواقف لافتة تجسد أهمية المرحلة الجديدة من العلاقات بين إيران وإقليم كوردستان.
من بين اللحظات التي لفتت الانتباه في زيارة بزيشكيان، حديثه باللغة الكوردية، وهي ليست مجرد كلمات، بل هي رسالة تشير إلى فهم إيران لأهمية التواصل بلغة الكورد التي يتقنها جيدًا، وتأثيرها الإيجابي في نفوس الشعب الكوردي، وهو ما يُساهم في كسر الحواجز النفسية والثقافية، ويفتح آفاقًا جديدة من الحوار المثمر. ويعكس اعترافًا صريحًا ووديًا بثقافة وهوية الكورد. هذه الخطوة تعكس احترامًا كبيرًا من جانب القيادة الإيرانية، وتؤكد على رغبة حقيقية في بناء جسور من التفاهم المتبادل.
توقّف بزيشكيان أمام صورة الزعيم الكوردي الخالد ملا مصطفى بارزاني كان بمثابة لحظة ذات دلالة تاريخية عميقة. فالجنرال بارزاني ترأس وزارة الدفاع في جمهورية مهاباد الخالدة وتسلم راية الجمهورية التي قضت عليها في حينها قوى الاستكبار العالمي بمعية الشاهنشاهية الإيرانية. ووقوف بزيشكيان أمام صورته، وعلى يساره علم جمهورية مهاباد، يُعدّ اعترافًا علنيًا بتضحيات الشعب الكوردي ونضالاته.
تأتي زيارة بزيشكيان في سياق إقليمي ودولي مضطرب، حيث تتزايد التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية. هذه الزيارة تشير إلى رغبة إيران في فتح صفحة جديدة مع إقليم كوردستان، تقوم على الحوار والتعاون. كما أنها تمثل فرصة لتجاوز التوترات التي شهدتها العلاقات بين الجانبين في الماضي، والعمل معًا من أجل تحقيق الاستقرار والتنمية. الزيارة تحمل في طياتها أيضًا رغبة إيران في أن تكون شريكًا إيجابيًا في تعزيز العلاقات مع الإقليم، خاصة في ظل التغيرات الجيوسياسية التي تمر بها المنطقة، وهو ما صرّح به الرئيس الإيراني المنتخب حديثًا.
ومن خلال هذه الزيارة، ترسل القيادة الإيرانية رسالة واضحة بأنها ترغب في التعامل مع كوردستان كشريك حقيقي، وليس كطرف يمكن تجاوزه أو تجاهله. كما أن هذه الزيارة تعزز من فرص التعاون في مجالات عدة، منها الاقتصاد والتجارة والأمن، بما يخدم مصالح الطرفين، وهي خطوة مهمة نحو بناء علاقات جديدة قائمة على التفاهم والاحترام المتبادل. هذه الزيارة، بما تحمله من رمزية ومواقف لافتة، تمثل بداية لمرحلة جديدة يمكن أن تسهم في تحقيق استقرار أكبر في المنطقة وتعزيز العلاقات الثنائية بين إيران وكوردستان بما يخدم مصلحة الشعبين.
إن مسار العلاقات بين إقليم كوردستان وجمهورية إيران الإسلامية له أهمية استراتيجية خاصة، ليس فقط لجوارنا الجغرافي، ولكن لما يجمع بيننا من مصالح مشتركة وحساسية سياسية وأمنية تجعل من الضروري أن نعمل معًا بروح من التعاون والاحترام المتبادل. وهذه المرحلة تقتضي منا رؤية أعمق وأكثر حكمة في التعاطي مع واقع العلاقات مع إيران، وضرورة العمل على إنهاء التوترات السياسية، بعيدًا عن لغة القصف والضغوط التي لا تثمر إلا عن المزيد من التعقيدات.
نحن في إقليم كوردستان نؤمن بأهمية العلاقات الطيبة مع الجيران، وإيران ليست استثناءً. وهي، بحدودها الطويلة معنا، وتداخلها التاريخي والثقافي مع شعبنا، تمثل جزءًا مهمًا من المعادلة السياسية في المنطقة. كما أن التعاون الاقتصادي والتجاري بين الطرفين، الذي يمتد لسنوات طويلة، يجب أن يكون محط تطوير وتحسين لصالح الشعبين.
ولكن، لا يمكن أن نغفل حقيقة أن هذه العلاقة تعترضها العديد من التحديات، ومن بينها التوترات التي تظهر بين حين وآخر، سواء كانت ناجمة عن اتهامات باطلة تجاه الإقليم أو الرهان على جهات داخلية أثبتت عدم قدرتها على النجاح وكسب ثقة الشارع الكوردستاني، فضلًا عن طرق الهيمنة والاستحواذ على مقدرات الحزب وإبعاد الشخصيات القيادية وغيرها من السياسات التي تجعل من عملية القدرة على التأثير وصنع القرار صعبة وغير مجدية في ظل وجود حزب تأريخي متماسك تقف خلفه قيادة حكيمة ومؤثرة داخليًا وخارجيًا ولها دور محوري في صنع القرار محليًا وإقليميًا ودوليًا.
نحن ندرك أن الأمن يشكل أولوية لكل من إقليم كوردستان وإيران، وقد قامت قيادتنا السياسية بعدة خطوات عملية تساهم في تهدئة مخاوف إيرانية معلنة، ونعلم أن هناك تحديات أمنية مشتركة تستدعي منا العمل معًا بدلًا من التفرد بالقرار. ينبغي أن نبني منظومة من التعاون الأمني والسياسي، قائمة على الشفافية والاحترام المتبادل، بحيث نتفهم مخاوف بعضنا ونعمل على تبديدها بروح من المسؤولية.
كما أن تعزيز الشراكة الاقتصادية، التي تمثل ركنًا مهمًا للطرفين، من خلال الحدود الطبيعية الطويلة المشتركة بينهما والتي تمتد لمئات الكيلومترات، يمثل بوابة لتبادل تجاري نشط يمكن أن يسهم في دعم الاقتصاد المحلي لكل من إيران وكوردستان. وتعزيز التعاون الاقتصادي سيتيح فرصًا جديدة للاستثمار المشترك، وتطوير البنية التحتية، وخلق فرص عمل، وهو أمر في غاية الأهمية في ظل التحديات الاقتصادية التي تواجهها إيران بشكل خاص.
وعملية بناء شراكة اقتصادية قوية ومستدامة ستسهم في تحقيق الازدهار للطرفين، كما ستعزز من قدرتهما على مواجهة الأزمات والتحديات الاقتصادية الإقليمية والعالمية. هذه الشراكة يمكن أن تكون حجر الأساس لعلاقة أكثر استقرارًا وتوازنًا في المستقبل.
إن المستقبل لنا جميعًا، إذا ما اخترنا طريق الحوار والتفاهم بعيدًا عن لغة العنف والضغط. ندعو إيران، بكل مؤسساتها العقائدية والعسكرية والأمنية فضلًا عن السياسية منها، إلى أن تكون شريكًا إيجابيًا في بناء هذه المرحلة الجديدة من العلاقات مع إقليم كوردستان، وأن نعمل معًا من أجل تحقيق الاستقرار والازدهار لمنطقتنا وشعوبنا. الفرصة أمامنا، فلنغتنمها بحكمة ورؤية بعيدة المدى.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن