منذ أن دخلت منطقة جبل الكورد (عفرين) في حالة "الإحتلال" التي لم تعترف بها دولة الإحتلال حتى الآن، لم أكتب شيئاً يذكر عن تلك المنطقة التي ولدت ونشأت فيها، وهي المنطقة التي أحن إليها كل يوم وليلة وأنا بعيدٌ عنها منذ عام 1979... لم أكتب عن عفرين وشعبي الكوردي فيها لانني لا أستطيع فعلاً، فالشعور بالإحباط يغمرني والحزن يوجعني ويرغمني على السكوت، رغم هول المأساة الإنسانية التي يعاني من آلامها شعبٌ عريقٌ في التاريخ وكبيرٌ في طموحه ومستعدٌ للفداء بكل ما يملكه، بل للتضحية بأرواح أبنائه وبناته، من أجل وطنه وأمته التي ينتمي إليها. واكتفيت بكتابة مقدّمة متواضعة للرواية التي كتبها عن عفرين عملاق الأدب الأستاذ إبراهيم اليوسف فقط، وما كنت لأكتبها لولا أن كاتبها عزيزٌ على فؤادي للغاية.
إن المشاهد التلفزيونية والصور الصحافية التي نراها كل يوم وليلة على شكل كارثة طبيعية لم يحدث مثيلها منذ عقودٍ طويلة في التاريخ، ترغم الإنسان على فتح فمه، ربما هذا صعبٌ بالنسبة لمن قلبه رقيقٌ ومريضٌ مثلي، فأقدمت على كتابة هذه السطور المتواضعة.
لم يتوّقع أحد أن يهب الكورد بسرعة لمساعدة المنكوبين، وبتلك المساهمة العظيمة من مواد غذائية ومواد تدفئة وعربات إسعاف ومعدات البحث تحت الأنقاض لإنتشال الذين لم يتمكنوا من الخروج إلى خارج الأبنية التي كانت تنهار كما في أفلام هوليود وكأنها مبنية من الكارتون. ولم يتوقع أحد أن هؤلاء الكورد الذين يتعرضون إلى القصف بالمدافع الثقيلة والصواريخ وقنابل الطائرات بوحشية واستمرار وكأن الكورد معتدون آثمون ومجرمون في التاريخ ولا حق لهم في الحياة والأمن والإستقلال. ولكن هذه الحقيقة، فقد جابه الكورد كل ذلك الإجرام جواً وبراً بإرسال ما لديهم من جرافات وشاحنات وعربات إغاثة، قبل أي جهةٍ دولية أو اقليمية، وذلك لأن قائدهم الكوردستاني ومرجعهم القومي مسعود بارزاني طلب منهم القيام برد فعلٍ على هجمات "المحتل" بالأعمال الخيرية، وعدم إثارة أي خلافٍ سياسي لأن مسؤولية إنقاذ ومساعدة المتضررين مسؤولية إنسانية عامة، مذكّراً الكورد بما ارتكبه نظام صدام حسين ضدهم وكيف كان رد فعل قائد الكورد الذي قال جملته الشيرة: "لو ارتكبنا ما فعله صدام بشعبنا لدخلنا في كارثة للعراق بأكمله!!" أو قال كلاماً كهذا.
لقد حاولت المؤسسة الخيرية للبارزاني الراحل عبور المنطقة التي يسيطر عليها قسد/ مسد في شمال شرق سوريا بقوة السلاح، فرفضت الإدارة الذاتية طلبها، مرارأ وتكراراً، فأضطرت المؤسسة إلى طلب ذلك من الحكومة التركية التي وافقت على مضض، ووصلت تلك المساعدات إلى غرب سوريا بتأخّر مما أفقد المنكوبين الاستفادة من محاولة كورد جنوب كوردستان لمساعدتهم. والغريب أن الحكومة التركية التي سمحت بدخول عربات وشاحنات ومعدات الإنقاذ الكوردية ترددت لأيامٍ عديدة في موضوع السماح لتلك المؤسسة غير السياسية وغير المسلّحة بدخول المنطقة الكوردية، وهذا أثار إستغراب الكورد وسخرية أتباع الإدارة الذاتية الذين نسوا أو تناسوا أن إدارتهم الذاتية منعت عبور القافلة الكوردية مثلما منع الأتراك ذلك.
وتحت ضغط الأحداث الجسيمة وتواجد فرق الإنقاذ من عددٍ كبيرٍ من الدول و بعد تدخّل شخصي من سيادة الرئيس مسعود بارزاني ووسائل التواصل الإجتماعي وبعض الدوائر الدولية والإعلام العالمي والشعب المتضرر، عرباً وكورداُ وأتراكا، سمحت الحكومة التركية بعبور جزء من المساعدات الكوردية، في حين منعت جزءاً آخر منها، بذريعة تافهة هي (الكاتربلات مواد عسكرية أو يمكن استخدامها عسكرياً) في حين أنها سمحت بالعبور والمساهمة في العمل الإنساني لأرمينيا واسرائيل ومصر واليونان ولكل من أراد المساعدة الضرورية للشعب المنكوب، وهذا التناقض في السلوك الإنساني والسياسي يضر بالحكومة التركية في حين تسجل مؤسسة البارزاني الخيرية الكوردستانية لشعبها الكوردي نقاطاً إيجابية بتعاملها الواقعي والمعتدل مع الوقائع والمواقف المختلفة والتي بعضها لا يحتمل، لأن هذه المؤسسة تأخذ أوامرها من المرجعية الكوردستاني ، من قائدها مسعود بارزاني وليس من أي مكانٍ آخر. وهذا الموقف التركي في هذا الموضوع الإنساني لا يقل عن سطو الإرهابيين على المساعدات التي كان هدفها كل المتضررين بغض النظر عن أجناسهم ولغاتهم، كما أن التفرقة في التعامل مع الكورد وسواهم ليس إلاً لوناً من ألوان الكراهية لدى الذين نفثوا البغضاء بين الشعب المتضرر.
لقد كان ترحاب كل شعبنا الكوردي والمتضررين من عربٍ وأتراكٍ وسواهم بقافلة المؤسسة الكوردستانية عظيماً رافقت شعاراتهم النابعة من شعورٍ إنساني عميق دموع كثيرين من الكورد، في شتى أنحاء العالم. بل كان رفضاً عفوياً صادقاً لسياسات الظلم والعدوان. ولقد بعثت زيارة رئيس اقليم جنوب كوردستان، السيد نيجيرفان بارزاني بصيص أملٍ صارخ في قلوب كل الناس الذي تعرضوا لهذه الكارثة، وفي صدور الكورد المؤمنين بالإنسان وكرمته وحق في الحياة اينما كانوا.
ستطبع آثار هذه الكارثة العظيمة قلوب وأذهان أكثر من جيلٍ من مواطني الدولتين التركية والسورية، وستنجم عنها مشاكل عديدة، إقتصادية، مالية، نفسية واجتماعية، لا يمكن حلّها والخلاص منها دون تعاونٍ وتنسيقٍ بين جميع دول المنطقة، ومن دون دعم دولي كبير لإعادة الإعمار ومنع التغيير الديموغرافي الحاصل بسبب سنوات الحرب والزلزال، وهذا سيدفع الشباب للبحث عن طرق للهجرة من البلدين المنكوبين، وقد يساهم التكالب على المعونات ونهبها والعيش في المخيمات تعميق الشرخ بين مكونات المنطقة وفي إثارة الأحقاد الدفينة، ما لم تقف حكومتا البلدين ومن ولهما موقف معتدلاً وواقعياً وإيجابياً وداعماً لهذه المكونات.
إن شعبنا الكوردي يسرّه أن العرب والأتراك وسواهم الذين كانوا حتى تحرّك القافلة الخيرية الكوردستانية من الاقليم باتجاه سوريا معادين لكل ما هو كوردي ولإسم البارزاني وحزبه وبيشمركته، بدأوا يشعرون بالخجل وهم يرون تلك القافلة الخيرية تسعى بجدية للقيام بواجبها الإنساني في تركيا وسوريا، دون تفرقة بين المنكوبين، ويدعون للكورد وقائدهم بالخير والعطاء.
أفلم يحن الأوان لأن يعترف العنصريون بأن المنطقة التي جاءت منها هذه القافلة وستجيء غيرها أيضاً تدعى "كوردستان" وليس "شمال العراق" والدستور العراقي يعترف بذلك بوضوح وجلاء؟ وهل ستوقظ هذه المأساة النائمين على أكف العنصريين دون مبالاة بما يحدث حولهم من تغيرات اقليمية ودولية وحضارية؟
جان كورد – 15/02/2023
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن