يمكن للمتتبّع استشراف السياسة الحذرة والمنكمشة بعض الشيء للإدارة الأميركية، وقراءة أهدافها المبنية على "لا مزيد من الدول الفاشلة" عبر التدخل المباشر دون وكالة، تمهيداً لتخطيط رسم خريطة المنطقة المستحدثة، استجابة لتداعيات الأزمة الاقتصادية على المستويين الداخلي والعالمي، بدءاً من اشتداد الأزمة الإيرانية، والحرب الأوكرانية الروسية، مما يعني مزيدا التخفيف من الأعباء والتحديات الخارجية بالالتفات لحل المشكلات الداخلية، دون المجاذفة في سياساتها تجاه إيران، بإرسال إشارات متضاربة تزيد الموقف غموضاً.
حيث دعت واشنطن مؤخّراً دول العالم قاطبة، إلى عدم تطبيع علاقاتها مع النظام السوري، وذلك في معرض تعليقها على اللقاء الذي جمع أخيراً في موسكو وزيري الدفاع السوري والتركي، إذ وصف رئيس النظام بشار الأسد بـ"الديكتاتور الوحشي"،على لسان المتحدّث باسم وزارة خارجيتها نيد برايس، للصحافيين قائلاً:"نحن لا ندعم الدول التي تعزّز علاقاتها أو تعرب عن دعمها لإعادة الاعتبار لبشّار الأسد، الديكتاتور الوحشي".
وأضاف "نحضّ الدول على أن تدرس بعناية سجلّ حقوق الإنسان المروّع، لنظام الأسد على مدى السنوات الاثنتي عشرة الماضية، في الوقت الذي يواصل فيه ارتكاب فظائع ضدّ الشعب السوري ويمنع وصول مساعدات إنسانية منقذة للحياة، إلى محتاجيها في المناطق الخارجة عن سيطرة قواته"، متناسية ما تقترفه تركيا من خلال الفصائل التي تتبنّاها بانتهاك أبسط ما يستحقه الإنسان، ضد العزّل من ممن يعيشون في بيوتهم في المناطق المحتلة تركياً، وتزعم أنها "المعارضة السورية".
ثمّة أسئلة برزت للمتتبّع حول مستقبل الشرق الأوسط وسياسات بايدن، مالا يمكن إغفالها والتي تستخدم في مواءمات، نظراً لسياسته المتراجعة من جهة، والتوترات التي انخرط فيها وأسعرت الشرق الأوسط، إضافة إلى فقدان الثقة بالشركاء التقليديين، "سواء في الخليج أو آسيا الصغرى" بتوكيل المهمة، فالجميع موسومون بخرق حقوق الإنسان، فغيرت مسارها الموجه ضد تركيا وقطر وليبيا والأحزاب الإسلامية في المنطقة، والاتحاد الأوربي الداعم لكييف، إلى سياسة الحوار والدعوة إلى تفاهمات قد تفضي إلى تسويات في المستقبل، حتى أضحى خطابها الحاثّ على مواجهة إيران تتبدّل مع تبدّل الأوضاع في أرض المعركة بأوكرانيا.
إذ أن القراءات تقود إلى ظهور ملامح سياسات "بايدن" تجاه الشرق الأوسط، تدلّ على أنه لن يعوّل على أحد في الشرق الأوسط سوى تل أبيب، فانسحبت من الصراعات باهظة التكاليف، متنحّية من هذه المغامرات عاكفة إلى نهج تجنّب التصعيد أو المواجهة في صراعات طويلة الأمد.
إلا أن ما يبقى حجر عثرة أمام مشروع إعادة تشكيل المنطقة، هما (إيران وتركيا) الذي سيؤثر على العمليات الأخرى أيضاً، والمتوسمتين بالضحالة في صراعها مع القضية الكوردية، ولأن تركيا دولة كبيرة ووازنة، فإن ترضيتها أمر صعب، ومساومتها بما يساوم به غيرها أصعب، وإن كان ذلك الممكن يصعب تحقيقه في ظل أطماع الشركاء وتسابق كل منهم على توسع النفوذ في المنطقة، فيما تتوقف نتائج ذلك على الأرض لقراءة خريطة الشرق الأوسط الجديد، الذي يتم رسمه بتخطيط يعتقد أنه أميركي، يبدو فيها الكوردي خالٍ من الاستحقاقات.
ففي الوقت الذي يحاول فيه الإدارة الأميركية، رسم خارطة طريق لشرق أوسط لخدمة مصالحها، ومواجهة القوى الصاعدة على المستوى الدولي، ما فرضتها التغيرات السريعة المتلاحقة على خارطة الأزمات العالمية، والحاجة إلى تشبيك العلاقات دفاعاً عن المصالح المشتركة حيثما وجدت، إلا أن الثابت في الحراك الكوردي بات هامشياً مع تراجع دور أميركا لصالح لاعبين دوليين.
وقد كشفت الحرب في أوكرانيا حقيقة انكفاء واشنطن عنها وتراجع اهتمامها بأغلب حلفائها في المنطقة، إذ بات يتعين عليها مخاطبة العالم كما هو، وإعادة بناء الثقة لمواجهة التحديات الجديدة.
بالتأكيد لم ولن ترسم ملامح شرق أوسط جديد، لأنه مصطلح فضفاض وطرح أساسا في بداية التسعينيات من القرن الماضي من خارج دول المنطقة ويمكن الجزم بأن شرق اوسط جديد وحقيقي، قد تتشكل نواته الأولى بمستويات عالية على صعيد التنمية الاقتصادية وكذلك التنمية البشرية، فضلاً عن القدرة على بناء علاقات متوازنة مع غالبية دول العالم.
فالاستراتيجية التي تنتهجها واشنطن في حماية الأمن ومكافحة الإرهاب، والتي تتمحور بصورة متزايدة في دعم قوات كوردية في سورية كلها حذرة من أن تمكين الكورد يولّد خللاً في التوازن في علاقتهم مع المجتمعات المجاورة، بيد أن ماتُصوّره هذه المحاججة على أنه ربما يتيح فرصة للكورد مع تواصل النزاع، وتتضاءل حظوظ الفرقاء المتناحرين- حسب "ديفيد رومانو" أستاذ سياسة الشرق الأوسط .
لذا ينبغي على أطراف النزاع العالقين في المأزق، أن يجدوا سبيلاً عن طريق التفاوض للخروج منها في حين تدفع القوى الكبرى باتجاه حل ديبلوماسي للنزاع "السوري" على التوصّل إلى اتفاق لتقاسم السلطة، مهمشة التضحيات المقدمة كوردياً في القضاء على إرهاب جحافل الدولة الإسلامية المزعومة، مكتفين ببعض المكاسب المحلية، مستبعدين حتى التفكير في ترقيتهم إلى حلفاء للولايات المتحدة، مخافة تنصيبهم لاعبين محتملين، وإشراكهم في أي اتفاق لتقاسم السلطة في سورية، من شأنه أن يؤثّر في العلاقات بينهم وبين البلدان الأخرى التي تتوزع بينهم الأراض الكوردستانية.
فيما لم يعد خيط التواصل بين أنقرة والنظام السوري "رفيعا"، بعد اللقاء الوزاري الرسمي الأول في نوعه منذ أكثر من عقد والذي استضافته العاصمة الروسية موسكو، بعد أن أصبح الوضع في سوريا أقل أهمية بالنسبة لمعظم المجتمع الدولي طوال عام 2022، منذ انلاع الحرب في أوكرانيا، و دخلت الأجواء الجيوسياسية في جميع أنحاء المنطقة فترة من التقارب، برعاية روسية.
إلا أن الوقت حان أن يعترفوا جميعا بأن الوضع تبدّل، بعد أن أفضت هذه النزاعات دون الوصول إلى تسوية عن طريق التفاوض، يستحيل إرساء استقرار طويل الأمد في تركيا وإيران والعراق وسورية، من دون معالجة المطالب الكوردية، مايقتضي بدوره إنشاء منظومات أكثر انفتاحاً على تقاسم السلطة مع المكونات، بإحداث تغييرات في السياسات من شأنها معالجة المشكلات المتفاقمة للخروج من الصراع الدائر.
فما يزال مشهد العلاقة الحاصل بين النظام وتركيا منحصراً ضمن خطوط عريضة، صحيح أن ما حصل لم يأت من فراغ بل بعد لقاءات أمنية ماراثونية، لكن البيانات الرسمية الصادرة من أنقرة ودمشق لا تشي بأن لقاء موسكو تكلل بشيء فعلي قد يطبق على الأرض أو في إطار السياسة، التي تستدعي إعادة تموضع القوات "السورية والتركية" وفتح بعض الطرق، والاتفاق على عودة اللاجئين، وتسوية وضع التنظيمات المسلحة، بمساع مشتركة لإيجاد صيغة لتسوية الأوضاع.
الهوامش:
بعيون أميركية.. هل فعلاً تغير الشرق الأوسط "ماريا معلوف"
عن سياسة الشرق الأوسط " ديفيد رومانو "
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن