Erbil 21°C الجمعة 22 تشرين الثاني 15:58

إعلامنا يقتل القتيل.. ويمشي في جنازته

فتعاطي الإعلام مع أزمة السياسة العراقية الحالية يكشف لنا انفصاماً في شخصية الإعلام وازدواجية في المعايير

العنوان في أعلاه هو مثل شعبي مشهور بين الناس يصف كيف يكون القاتل الحقيقي هو أكثر المواسين، ولربما أكثر المساعدين لكنه في حقيقة الأمر هو القاتل الحقيقي، فهل إعلامنا بالفعل يقتل القتيل ويعود ليمشي في جنازته، ومن هو القتيل الذي قتله الإعلام في مجتمعنا؟.

بداية تشير دلالة العنوان إلى أن إعلامنا وصل إلى مرحلة التضليل الممنهج القائم على إخفاء الحقيقة؛ كأن نقول ما خُفي كان أعظم؛ فالإعلام والصحافة في تعريفها العام يجب أن تكون السلطة الرابعة التي تقوم على مراقبة السلطات الثلاث في المجتمع "التشريعية والقضائية والتنفيذية"، وأن تعمل وفق مسار العمل البارومتري الديمقراطي أي أن تكون منبر الضعفاء والفقراء والمساكين، وأن تكون سلطة الإعلام الكشف عن الحقيقة واستقصاء الواقع.

لكن في واقعنا الشرق أوسطي عامة والعراقي على وجه الخصوص نرى أن الإعلام انقلب عن دوره في السلطة الرابعة وبات سلطة التضليل، خاصة بعد أن اندمج في مثلث "المال والسياسة" مشكلاً الضلع الثالث في قهر الشعوب وتغيير الحقائق، فوسائل الإعلام اليوم في عصر الفضائيات والانترنيت والمجتمع الرقمي، أصبحت تكيّف الأحداث والوقائع وفق القوى التي تتحكم في النظام، سواء كان ذلك النظام محلياً أو عالمياً، لنرى أن إعلامنا اليوم يمر بأسوأ مراحله حيث نلاحظ اختراقات بالجملة للموضوعية والحيادية والنزاهة وأخلاقيات المهنة والحرفية، فالآلة الإعلامية التي بين أيدينا أصبحت تركز على جوانب الحدث التي تخدم أجندتها وتتجاهل تماماً كل ما يناقض أهدافها وسياساتها، فالأمر أصبح تضليلاً وتشويهاً وتحريفاً ممنهجا ومنظماً للواقع.

فتعاطي الإعلام مع أزمة السياسة العراقية الحالية يكشف لنا انفصاماً في شخصية الإعلام وازدواجية في المعايير وأن إعلامنا يقع في أزمة أخلاقية عويصة.

فبات الإعلام مضلل الشعوب بدل أن يكون مرشدهم وموجههم الأول والأخير، وبات إعلامنا القوة التي تعمل على خلق النزاعات والأزمات من خلال تغيير المعلومات بفبركة وصناعة متقنة من أجل التضليل والتزييف لتشكيل رأي عام وفق ما يريده الساسة وأباطرة المال والأعمال وتجار الحروب.

فوسائل الإعلام المختلفة تتعامل اليوم مع حالة الانسداد السياسي بطرح قضايا مسيسة وفق قراءات ومعطيات تصب في أجندة وأيديولوجية المؤسسة الإعلامية التي هي في الأساس تابعة لجهة سياسية معينة داخلية كانت أم خارجية على حساب الحقيقة والرسالة النبيلة لمهنة الصحافة والتي من المفترض أن تعتمد الشعوب عليها في معرفة حقائق الواقع.

فالتغطية المختلفة والمتضاربة والمتناقضة للحدث نفسه من قبل مؤسساتنا الإعلامية العراقية خلق ازدواجية توحي للشعب وكأن الأمر يتعلق بأزمات وأحداث مختلفة وليس بالأزمة نفسها او الحدث نفسه، وهذا الأمر أوجد جمهوراً سياسياً متضاداً ومتنافراً، فصار لكل جهة سياسية جهة شعبية تحركها اليد الإعلامية وتأخذه إلى المجهول مبينة له أنها الحق وكل ما عداها هو الباطل، لنرى آلاف المقالات والتقارير والدراسات والبرامج الحوارية والسياسية في المؤسسات الإعلامية المختلفة وعبر جميع أنحاء البلد تموج بوجهات نظر تصعيدية وتجيشية للرأي العام، والتي في أي وقت قد تقود الشعب إلى حرب أهلية طاحنة، فالمؤسسات الإعلامية اليوم تعمل في الحقيقة على يقتل هذا الشعب وهي نفسها من تسير وتولول وتلطم وتبكي خلف جنازة هذا الشعب.

فإعلامنا وصل إلى درجة خطيرة من قدرته على التعامل المزدوج والمنفصم عن أرض الواقع حول النزاعات والصراعات الدولية وفي شن حملات إعلامية مليئة بالمغالطات والتضليل والتزييف الذي يكشف يوماً بعد يوم أن وسائل الإعلام خانت رسالتها ولم تفلح في أن تنصف جمهورها وأن تنصف الرأي العام سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي لمعرفة حقيقة الحدث وخلفياته وأبعاده، وأهدافه، وهل استطاعت وسائل الإعلام أن تزيح الالتباس والغموض والتضليل والتشويه والصور النمطية وتقدم الواقع كما هو؟ أم أنها تسارعت وتفننت في فبركة الواقع كما تريده أن يكون وفق أطرها وأيديولوجيتها وسياستها وما يخدم أجندتها وفق أهوائها وأهدافها ومصالحها ضاربة عرض الحائط قواعد الموضوعية والالتزام والنزاهة وتقديم الحقائق كما هي لا غير؟.

وأنا هنا لا أستثني أحداً خاصة أدوات هذه المؤسسات التضليلية والتي يقف على رأسها قلم الكاتب الإعلامي الذي امتهن كتابة الفبركة وفق القوى المالية والسياسية التي تتحكم به، معتبراً عملية إخفاء الحقيقة وسيلة للقضاء على الإرهاب، وإظهار الحقيقة سيكون تزويرا للواقع.

فعمد هؤلاء إلى التلاعب بعقول الشعب لإرضاء حفنة صغيرة جداً من تجار الأسلحة والحروب وتجار الدين الذين تفوق خطورتهم خطورة أكبر الأعمال الإجرامية والإرهابية وممن يسمون أنفسهم بالسياسيين.

لنكون أمام أخطر مشهد قد نراه على الإطلاق في تاريخنا الحديث وهو مشهد الإعلام الذي يقتل الشعب بفكره المسموم وهو ذاته من يسير في جنازة هذا الشعب البسيط الذي يصدق كل ما يسمع، ويؤمن بكل ما يرى، ويتكلم بكل ما يسوق إليه.

العراق الشرق الاوسط

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات حتى الآن

الرد كضيف

هل ترغب في تلقي إشعارات؟
ابق على اطلاع بآخر أخبارنا وأحداثنا.