د. سعد الهموندي
لماذا حصان طروادة؟.. ولماذا هو مهزوم؟
لنعتبر بداية أن الإعلام هو حصان طروادة أي هو تلك الخدعة التي تدخل ذهن المتلقي لترزع فيه ما تشاء من معلومات أو من مغالطات أو خلاف ذلك، فخدعة حصان طروادة نجحت حين تمكن شكل الحصان وحجمه من تمرير الجنود إلى داخل الأسوار المنيعة التي لم تتمكن الحرب من كسرها، بينما بفكرة واحدة تم هدم هذه الأسوار.
فحصان الإعلام هذا ناجح وبكل جدارة في التأثير على الجمهور، لكن لماذا إعلامنا حصان طروادة المهزوم، ببساطة لأن هذا الحصان يبتلع أموالاً لا تُعد ولا تُحصى في بنائه، وعندما يكمل بنيانه ويتم إنجازه لا يعرف كيف يقوم بمهامه، والقائمة أصلا على توعية المشاهد، فبدل أن يدخل ذهن المتلقي الأفكار والتحليلات التي تُصحح مساره، يدخل الحصان فارغاً عارياً لا حول له ولا قوة، فلماذا إذاً دفعنا كل هذه الأموال لبنائه، لماذا نظن أننا مضطرون لبنائه ثم نُدخله دون أي محتوى، لماذا نعمل على تزيينه وتجميله دون أي محتوى ُيذكر؟
ولنعود هنا ونطرح أحد أكثر الأسئلة أهمية وخطورة، من يملك وسائل الإعلام بالأصل؟، ومن هو القائم على بناء الحصان؟ وهل إفراغ الإعلام من محتواه مقصود أم أنه يأتي عن جهل؟
ما أراه أنا شخصياً أن إعلامنا فارغ عن جهل لا عن علم، أي أن القائمين على صناعة هذا الإعلام لا يعرفون أنه إعلام فارغ لا يقدم ولا يؤخر، بل حتى أنه فشل في صناعة رأي عام، هو فقط نجح في تسويق العنتريات والصراخ والصياح لجذب الانتباه لا أكثر، مثله كمثل الطبل الذي يصل دويه كل أرجاء المكان لكن دون أي جدوى أو فائدة من ذلك.
وما أقصده هنا أن إعلامنا العراقي من جنوبيه إلى شماليه دخل مرحلة "البزنس" والتجارة المالية، وابتعد عن أهدافه في صناعة الرأي العام وصناعة الفكر والمحتوى.
فصار رجال المال والأعمال يستعملون الصحافة والإعلام كمطية للوصول إلى السلطة، أي باختصار ركب بعض السياسيين الذين بالأصل هم تجار مال على ظهر حصان طروادة وساقوه حيث يشاؤون ففقد قيمته وفقد رسالته.
أيها الأخوة إعلامنا اليوم يستنزف ملايين الدولارات كل عام، ولا أريد أن أبالغ قليلا وأقول كل شهر، لكنه تحول بفعل الجهل إلى طاحونة هواء، فلم يعد هذا الإعلام يبرز كداعم للحريات الفردية والعامة في مسار ديمقراطي عُوّل عليه لخلق مناخ جديد من الانفتاح على الحرية والديمقراطية، ولم يعمل هذا
الإعلام على صناعة جيل من المثقفين والمفكرين يحافظ على إرث التاريخ، بل تحول إلى قنوات تستجدي المشاهد بمشاهد العريّ الفاضح، معتبرين واهمين أن المال والجنس هما الطريق الأمثل للوصول إلى المشاهد وهو ما يصنع الرأي العام.
ولا يتعلق الأمر هنا بانتقاد سيطرة رأس المال على الإعلام، بالنظر إلى حاجة المؤسسات الإعلامية إلى مصادر تمويل، لكن المريب أيضاً هو غياب الشفافية المالية، وبحكم هذه الضبابية صار العمل في الإعلام هو أحد الصفقات التجارية القائمة على الأجندات السياسية.
ففي العراق يتسابق السياسيون وأصحاب المال والأعمال لامتلاك وسائل إعلام خاصة بهم، لتصبح حرية التعبير ثانوية مقارنة بمصالح سياسية واقتصادية وتجارية لا تؤمن بالصحافة كمهنة ورسالة، بل باعتباره سلاحاً للتأثير على الرأي العام ودفعه نحو توجهات بعينها، وتدجينه ليؤمن بمصالحه الفردية الضيقة لا بالمصلحة العامة، وبسبب سيطرة المنتفعين على أموال وسائل الإعلام غابت الرسالة وباتت فارغة أمام فساد العقول.
لتصبح المعادلة الخطرة في العملية الإعلامية أن السياسي يبحث عن رجل الأعمال لتصفية خصومه، أما رجل الأعمال فلا يستحضر روح الصحافة بقدر ما يستحضر منطق الربح والكسب المالي، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فبعض قنوات التعبير الخاصة من فضائيات وإذاعات باتت تعمل على سياسة التسقيط مدفوع الثمن ، أي صناعة الشبهات والإشاعات مقابل أموال تُدفع لهذه المؤسسة أو تلك، بل وصل الحد إلى أن بعض الشخصيات السياسية تدفع الأموال الطائلة لمدراء القنوات كي يقبلوا هذا المحلل بدل ذاك، أو ليُحوّروا الخبر من اتجاه إلى آخر.
أيها الأخوة إعلامنا اليوم بات حصان طروادة الفارغ المهزوم، حصان محقون بالبوتوكس والفيلر ويضع عدسات ملونة ويشّد من هنا ويرفع من هناك، ليس من أجل أن يمرر رسالته الفكرية البطولية بل من أجل أن يثير الغرائز ويجمع الساقطين والباحثين عن المتعة، مُضيقا المكان على أصحاب الفكر والعمق المعرفي.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن