في الديمقراطيات الحديثة التي أنتجتها عمليات التغيير الفوقية سواءً فيما سُمي بالربيع العربي أو التي تميزت بتداخل جراحي أمريكي أوروبي عربي كما في العراق وليبيا، ورثت بالكامل ذات النهج الذي ساد أنظمة الحكم قبل عمليات التغيير أو التجميل التي استهدفت الهياكل الإدارية وخاصةً السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتحولت مع التغيير الفوقي الذي حصل إلى ما كان يُسمى بـ (مجلس قيادة الثورة) الحاكم المطلق في تلك الدول؛ وذلك باستخدام أدوات ديمقراطية من خلال صناديق الاقتراع ذاتها التي كانت تُستثمر من قبل الأنظمة السابقة، وبغياب أي مفهوم للمواطنة الجامعة أو أي وعي ديمقراطي وطني حر. مع تراكم متكلس للإرث الاجتماعي والديني والقبلي البدوي من العادات والتقاليد والتركيبات الاجتماعية القديمة، تحولت هذه الأنظمة المستحدثة إلى أنظمة شمولية أكثر تشدداً من التي سبقتها، خاصةً في تغليب مكوّن على آخر في بلدان متعددة المكونات كالعراق وسوريا وليبيا واليمن، التي استبدلت العقيدة القومية بأخرى مذهبية وميليشيا دينية ومذهبية بدلاً من ميليشيا قومية وحزبية فرضت هيمنتها على الشارع الانتخابي وأدواته في صناديق الناخبين، ناهيك عن آلاف مؤلفة من رجال الدين وملحقاتهم وأجهزة دعايتهم التي اعتمدت منابر المساجد والحسينيات والمناسبات الدينية من خلال شعارات ونصوص وفتاوى دينية ومذهبية وأعراف قبلية لاحتواء العامة من الأهالي المغيبين تعليماً وثقافةً ووعياً واللاهثين وراء لقمة العيش بسبب البطالة والفقر المدقع!.
وفي التجربة العراقية وبعد أن أسقطت الولايات المتحدة هيكل نظام حزب البعث الشمولي، تم تشريع دستور دائم حظي بتصويت الغالبية العظمى من الناخبين العراقيين في عام 2005، حيث أقرَّ الدستور الجديد النظام البرلماني بمجلسين الأول للنواب والثاني اتحادي يضم ممثلي مكونات العراق بما يشبه الكونغرس الأمريكي والعموم البريطاني والجمعية الوطنية الفرنسية، لكنه فشل منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا بإنشاء الجزء الثاني للبرلمان (المجلس الاتحادي) بما خلق شكوكاً في قانونية ودستورية مجلس النّواب لدى الكثير من خبراء الدساتير والنُّظم البرلمانية في الداخل والخارج، وأتاح فرصة لهيمنة القوى الراديكالية المفعمة بالأيديولوجية الدينية ذات التوجه المذهبي بحجة الأغلبية العددية (تخميناً) لعدم وجود أي تعداد عام للسكان منذ أكثر من ربع قرن وبالاعتماد على تكهنات وتقديرات لا يمكن اعتبارها سنداً قانونياً يؤهل تلك القوى للاستحواذ على كل مراكز القرار السياسي والأمني والعسكري والمالي، وبذلك تحول العراق من نظام ديمقراطي برلماني مفترض إلى نظام شمولي بأدوات ديمقراطية. حيث أكدت نتائج الانتخابات الأخيرة التي جرت في العاشر من أكتوبر 2021م والتي أظهرت تراجعاً كبيراً لتلك القوى رغم ما بذلته من محاولات الهيمنة على صناديق الاقتراع، وإصرارها على إلغاء تلك النتائج أو إشاعة الفوضى وتعطيل الدستور والحياة السياسية، أن البرلمان ليس أكثر من قميص عثمان تثبت به تلك القوى شرعيتها، وسُلماً تعتلي به منصة الحكم والتفرد كما حصل في تشريع قانون الحشد الذي يتقاطع مع المادة الدستورية التاسعة أولاً، حيث تنصّ على أنه: "يحظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة"، والتي تمنع إنشاء أي فصائل أو جماعات مسلحة خارج المنظومة العسكرية الرسمية للبلاد، ناهيك عن الممارسات والكيانات التي يمنعها الدستور في المادة السابعة أولاً والتي تنصُّ على أنه:
"يحظر كل كيان أو نهج يتبنى العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي أو يحرض أو يمهد أو يمجد أو يروج أو يبرر له، وبخاصة البعث الصدامي في العراق ورموزه وتحت أي مسمى كان، ولا يجوز أن يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق، وينظم ذلك بقانون".
وللأسف ليس الحال في بقية دول الحبو الديمقراطي أفضل من العراق، حيث غياب مفهوم جامع للمواطنة وانعدام أي وعي ديمقراطي وطني، مع هيمنة التيارات الدينية المذهبية وشيوخ القبائل والعشائر والمال السياسي والتدخلات الإقليمية في ظل فساد مالي مريع أدّى إلى انحدارٍ خطيرٍ في مستويات المعيشة وتدهور الخدمات وانتشار البطالة وأعمال الجريمة المنظمة من قبل جماعات مسلحة وأذرع ميليشياوية لمعظم الكتل والأحزاب المهيمنة على البلاد، بما يُعيق أي تطور نوعي للتطبيقات الديمقراطية وفشل ذريع لنظام الحكم وعمليته السياسية.
إن الصراع الحالي بين الرابحين والخاسرين في سباق الانتخابات العراقية حول النتائج، سيمنح العراقيين فرصةً جدية للانعتاق من هيمنة العقلية الشمولية التي كانت تمثلها قوى الخاسرين، في حالة إقرار المحكمة الاتحادية النتائج الأخيرة لصالح الفائزين، وغير ذلك سيوقع العراق بالكامل في حقبة أكثر تطرفاً وشدة من الأنظمة السابقة لعملية التغيير.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن