أدب الكتابة الرفيع من الأشياء القليلة التي قد تمنحك المتعة مع الألم في الوقت ذاته، يحدث هذا عندما تقرأ مقالاً آسراً بأسلوبه وجمال لغته، ولكنه مؤلم بمضمونه وبالفكرة التي يناقشها، تماماً كمقال الأخ كفاح محمود كريم "المدينة التي انهارت عند أسوارها الحضارة" الذي نشره على موقع إيلاف في السادس والعشرين من يوليو الفائت. ورغم أن مضمون المقال يعنينا جميعاً بسبب القضية الإنسانية التي يطرحها الكاتب، والتي لا ينبغي أن يختلف عليها اثنان من أصحاب الضمائر الحية، إلا أن المقال أيضاً، ولسبب آخر يعنيني شخصياً، فقد كتبه الأخ كفاح تعقيباً على مقالي المنشور منذ فترة قريبة بعنوان (في سيرة المدن التي كسرت قيد التاريخ: "أبوظبي نموذجاً")، والذي كتبته بمناسبة إطلاق مسبار الأمل الإماراتي نحو المريخ، داعياً أن تحتذي كل مدن المنطقة وحواضرها خطى أبوظبي التي استطاعت أن تُحدث طفرة شاملة في مضمار التطور والحضارة خلال سنوات قليلة جداً بالمقارنة بينها كمدينة ذات نشأة حديثة، وبين المدن الأخرى القديمة في التاريخ بعمر تجاوز بضعة آلاف من السنين.
وافقني الأخ كفاح بداية مقاله على السمات الاستثنائية التي تميز بها مؤسس المدينة الحديثة وقائد الإمارات العربية نحو الاتحاد، الشيخ زايد القائد الحكيم رحمه الله، عاقداً المقارنة اللطيفة بينه وبين نماذج أخرى من القادة السياسيين في منطقة الشرق الأوسط، والذين كانوا وبالاً على دولهم ومجتمعاتهم، وسبباً للدمار والتخلف والفقر، فهدموا الحضارة بدل أن يبنوها، وأخرجوا بلدانهم من ركبها ليرجعوا بها إلى عهود تخلف وانحطاط تحت وطأة ظلم وظلام لم يشهد التاريخ الحديث لهما مثيلاً.
بدءاً من المسكن كأصغر وحدة لبناء الوطن، ثم وجود المدرسة لرعاية الأطفال وصناعتهم رجالاً ونساء للغد، وتوفر المشفى للرعاية بالصحة التي لا شيء يفوقها أهمية لوجود الإنسان وقوته، ثم الثقة بالمستقبل والاستعداد له، على هذه العناصر الأربعة التي راعاها الشيخ زايد في نهضة الدولة يبني الأخ كفاح مقومات المواطنة التي لا تزدهر الشعوب بدونها، معتبراً أنها بالنسبة للإمارات بداية الطريق نحو المريخ. أما غياب هذه العناصر فهو أيضاً البداية نحو زوال الحضارة واندثارها، وأنا أوافقه في ذلك كل الموافقة، إذ كيف تقنع إنساناً أنه يملك وطناً وهو لا يملك فيه بيتاً، والبيت أساس الملكية والحق الأول فيها، سواء في الأرض أو فوقها أيضاً، حتى لقد جاء في القرآن الكريم: (ربّ ابنِ لي عندك بيتاً في الجنة).
على الضفة الأخرى، يتناول المقال الواقع المأساوي للقضية الكوردية في منطقة الشرق الأوسط، والتي تُعدّ أقدم أزمات المنطقة من جهة، وأكثرها أهمية بالإضافة إلى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من جهة ثانية. ولا شك أن المتتبع للقضية الكوردية يعرف حجم الظلم والحيف اللذِين لحقا بالمكّون الكوردي رغم أنه مكّون كبير وذو تاريخ عريق يمتد لآلاف السنين، ولقد استطاع الكورد الوقوف أمام حملات العنف والإبادة المتعاقبة، والحفاظ على تراثهم ولغتهم وعاداتهم رغم التكلفة العالية التي دفعوها جراء ذلك، ولم يحيدوا عن مطلبهم الأساس بالاعتراف بهم وبحقهم في الأرض والوجود والسيادة.
تعامل أغلب أعداء الكورد معهم بناءً على منطق الوجود – واللا وجود، أي إمّا أن يصبحوا مثل الآخر المعتدي ويدينوا له بالسلطة ويلتزموا لغته وثقافته ومعتقداته، وإمّا أن يُقتّلوا أو يهجّروا، لكن الكورد أرادوا بناء العلاقة مع الآخر المختلف عنهم على أساس منطق وجود – وجود، وتطلّعوا إلى بناء علاقات السلام والاحترام والاعتراف المتبادل مع المكونات الأخرى التي جاورتهم في مناطقهم التي تمتد اليوم موزعة على أربعة دول: تركيا وسورية والعراق وإيران. وفي الحقيقة التي يشهد بها تاريخ الكورد وحاضرهم، فإن موقفهم السلمي هذا لم ينشأ عن ضعفهم أو جبنهم أو حتى عجزهم، فقد وصف أقدم المؤرخين الكورد بأنهم رجال شجعان أقوياء روّضوا الجبال وتحملوا صعوبة العيش وحافظوا على شخصيتهم الاجتماعية والثقافية الضاربة في عمق الحضارة لآلاف سنين خلت، وما صفة العناد التي تُلحق بهم عادة إلا بسبب ثباتهم على مبدأهم ودفاعهم المستمر عن قضيتهم.
حُورب الكورد على جبهات عدّة، وحُشدت ضدهم جيوش كثيرة تحت إيديولوجيات متعددة، بدوافع عرقية دفعت الحكومات التركية والإيرانية إلى قتالهم واضطهادهم وتضييق سبل عيشهم وحياتهم، وحرمانهم أبسط مقومات الحياة ككيان ذي شخصية مستقلة بثقافتها ولغتها وتقاليدها. كما واجه الكورد تارة أخرى الإيديولوجيا القومية العربية التي تراوحت أسلحتها ضدهم بين النفي والتهجير وإنكار مواطنتهم في أخف الحالات وأقلها عنفاً، وبين استخدام القوة العسكرية وارتكاب جرائم إبادة جماعية عبر استخدام أسلحة محرمة دولياً، كما حدث في العراق. أيام صدّام حسين وفي ظل شوفينية البعث اليميني المتطرف آنذاك.
وقد استطاعت الديبلوماسية الكوردية رغم تشتتها في عدة دول، ورغم ضعف التنسيق بين المكونات السياسية للكورد، أن تلفت انتباه المجتمع الدولي للقضية الكوردية، وتكوّن لدى القوى السياسية العالمية والإقليمية اتجاهاً نحو مناصرة حقوقهم المشروعة والعادلة، كما ساهم التغير الدراماتيكي في المنطقة خلال تسعينيات القرن الماضي في تحقيق مكاسب مهمة للكورد تمثلت في حصولهم على الإدارة الذاتية في إقليم كوردستان شمال العراق، وقد استطاعت القيادة السياسية للإقليم تحقيق الكثير من المنجزات الاجتماعية والثقافية والحقوقية رغم عدم الترحيب وغياب التعاون من قبل محيطها الذي سعى إلى إفشال نهوض كوردستان، أو التقليل من أهميته ونجاحه على الأقل.
وقد لاحظ العالم أجمع كيف تمكن الإقليم، رغم أنه قام في الأصل على أساس قومي عرقي خاص بالكورد وحدهم، أن يتبنى سياسة الانفتاح الإنساني على جميع المكونات، حتى صارت أربيل، عاصمة الإقليم، ملتجأ للكثير من الباحثين عن الاستقرار والطمأنينة ودولة القانون والمساوة والتعايش وقبول الآخر، وخطت خطى مهمة في السعي نحو تحقيق أكثر من ذلك، والسير على ذات الطريق التي سلكتها يوماً ما أبوظبي في سبعينيات القرن الماضي، غير أن الارتباط السياسي والاقتصادي بين الإقليم والدولة المركزية في العراق أثّر سلباً في البداية وحدّ من نجاح التجربة التي لو نجحت لتحولت كوردستان العراق إلى نموذج متوسطي رائد، سياسياً واجتماعياً وحتى اقتصادياً، ولكن الجزء الكوردستاني بقي محكوماً لحال الكل العراقي المنهك بالصراعات والمفتقر للهوية الواضحة، سواء من الناحية الاقتصادية أو الناحية السياسية.
أمضى إقليم كوردستان سنوات عدة من النجاحات في ظروف صعبة رغم الحاقدين من جهة، والحاسدين من جهة أخرى، والخائفين من تعميم التجربة من جهة ثالثة، واستطاع رغم محدودية موارده وصغر كيانه السياسي، أن يبني تحالفات مهمة مع دول قوية على المستوى العالمي، ما أضفى على مشروعيته السياسية المزيد من القوة والثبات رغم تصاعد الاتهامات المجانية لإدارته السياسية بالعمالة للخارج والرضوخ للهيمنة الأمريكية والتطبيع مع إسرائيل، ولا عجب في ذلك ونحن نعلم أنّ من روّج لهذه الاتهامات هم من اتخذوا من عداء أمريكا وإسرائيل شمّاعة يعلقون عليها فسادهم وتخلفهم، وحجّة يشرعون من خلالها استبدادهم بالشعوب التي يحكمونها، خاصة وأن تلك الشعوب تدرك تماماً أن لا ناقة لها ولا جمل لا في عداء أمريكا ولا في قتال إسرائيل.
مثّل إقليم كوردستان العراق أيضاً، بالنسبة للكيانات الكوردية الأخرى في الدول الأربعة منارة رائدة لتطوير الجهد السياسي وبدء مرحلة جديدة للمطالبة بحقوقهم في الحياة والحرية والسيادة الذاتية وتقرير المصير، ورغم أن الخطى في هذا الاتجاه كانت بطيئة، إلا أن اتسامها بالثبات والثقة شجّع القيادات الكوردية الإقليمية على انتهاج أساليب وأدوات السياسة المعاصرة كالحوار السياسي وتفعيل الدور المجتمعي المدني وتجنب الصدامات المسلحة واستثمار قوة الدبلوماسية الناعمة، وقد مثّل العمل السياسي الكوردي في تركيا نموذجاً متقدماً في هذا الإطار.
ولكن.. مع نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، واشتعال أزمات "الربيع العربي"، ثم ارتداداتها في المنطقة، خاصة في العراق، عانى الكورد عموماً من الفوضى التي تسببت بها الأوضاع السياسية والأمنية الجديدة، وواجهوا إيديولوجيا عدائية جديدة، لكنها إرهابية هذه المرة اتخذت من الدين والبعد الطائفي ذريعة حرب لا إنسانية ارتكب فيها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" أفظع الجرائم ضد الكورد العزل رجالاً ونساء وأطفالاً، وحول هذا الموضوع دارت مقالة الأخ الأستاذ كفاح.
أما اليوم، وبعد أن وضعت الحرب على" داعش" أوزارها، تلك الحرب التي مثّل فيها المقاتلون الكورد في العراق وسورية الصف الأول ضد التنظيم، ينبغي عليهم الآن توحيد صفوفهم لاستئناف مسيرة النجاح التي انطلقت من أربيل، على أمل أن تعم العراق كله بعربه وكورده وبقية الإثنيات الأخرى التي تكوّن أصالة العراق وحضارته، ولا شك أن قيادة الأخ الرئيس نيجرفان بارزاني السياسي المخضرم والرئيس الحالي للإقليم الشاب المتعلم الطموح والذي وجدت عنده الطموح والرؤية الواضحه، تمثلان فرصة عظيمة لتجاوز تراكمات السنوات الماضية التي أدت إلى انعدام الثقة المتبادل بين بغداد وإربيل، وإعادة بناء العلاقات الداخلية على قاعدة المصلحة العامة للدولة بأسرها، خاصة وأن الأمل كبير اليوم بقيادة الأخ مصطفى الكاظمي لرئاسة مجلس الوزراء، والذي نظنه سيولي كوردستان العراق الاهتمام المطلوب، وسيكون أكثر انفتاحاً من سابقيه تجاه أربيل، ولعله يجد فيها التجربة الناجحة التي يمكن تعميمها على العراق ككل، والبوابة الرئيسة لتلحق بلاد الرافدين بركب الحضارة من جديد، بعد عقود من الاستبداد والعداء والضياع.
أخيراً.. لقد عاد بي مقال الأستاذ كفاح إلى التأكيد مرة أخرى على الدور الريادي التي تؤديه أبوظبي إقليمياً، سواء من جهة حراك قيادتها السياسية الساعية إلى إحلال السلام والحدّ من بؤر الصراع في منطقة الشرق الأوسط ككل، أو من جهة ما باتت تمثله عاصمة الاتحاد الإماراتي كنموذج يحتذى لدى كل دول المنطقة. ورغم الواقع المظلم، إلا أن نوراً يلوح دوماً في الأفق، يجعلني مؤمناً بأن أربيل ستكون أبوظبي الثانية، فها هو الزعيم مسعود البرزاني يسلك الدرب الذي سلكه الشيخ زايد من قبل، فيعدّ للدولة جيلاً مسلحاً بالعلم والمعرفة، مستفيداً من علم وخبرة أهم الجامعات في العالم، موفداً إليها خيرة شباب العراق، من داخل الإقليم وخارجه، انطلاقاً من المسؤولية التي يشعر بها تجاه الوطن الأم، خاصة بعدما أتت الحرب على المقدرات والبنى التحتية في الدولة، وربما يكون الإقليم الذي اتُّهم يوماً ما بأنه ناكر للدولة ومارق عنها، سبباً في إعادة عمرانها وتطورها. وفي التاريخ دروس وعبر وأمثال على ذلك كثيرة.
- حسن إسميك كاتب ورئيس مجلس أمناء مركز ستراتيجيك للدراسات والأبحاث.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن