Erbil 7°C الأربعاء 27 تشرين الثاني 07:12

كوردستان والبيشمه ركه ... صنوان لا يفترقان

مقال للمفكر والباحث الكوردي كفاح سنجاري نشره في ربيع عام 2006

يتساءل البعض عن سر قدسية البيشمه ركه لدى الكورد وكثير من العرب الذين انخرطوا في تنظيماتها عبر عشرات السنين من تاريخ كوردستان والعراق، وربما يسمح البعض لنفسه بمقارنتها مع جماعات مسلحة أنتجتها نظما سياسية أو أحزاب تسلطت على الشعب كما حصل مع تجربة البعث وحرسه القومي ثم جيشه الشعبي والتي كان هدفها الأول والأخير الإرهاب بعينه والدفاع عن ذلك النظام المستبد، ويعرف العراقيون جيدا دون غيرهم ماذا كانت تعني مجموعات الحرس القومي والجيش الشعبي وتاريخها مع الشعب وقواه الوطنية، كما يدرك الان أيضا وخاصة مئات الالاف من العراقيين الذين اختاروا كوردستان ملجأً لهم البون الشاسع بينها وبين أي قوة عسكرية مسلحة في العراق او غيره من البلدان.

ورغم أن تاريخ شعوب الشرق الأوسط نادرا ما يعرف في تراثه تنظيما عسكريا وشعبيا متينا إذا ما استثنينا بعضها في الجزائر وفلسطين كالذي عرفه في نظام البيشمه ركه التي ظهرت بداياتها في أواخر القرن التاسع عشر، وتطورت كقوات دفاعية عن اول جمهورية كوردستانية في النصف الأول من القرن الماضي، حينما قاد الجنرال مصطفى البارزاني عدة مئات من الفدائيين الكورد باتجاه عاصمة الجمهورية الفتية مهاباد، وكانت لبنتها الأولى في تأسيس جيش الجمهورية وأساسا لحركة شعبية عسكرية استمدت قوتها وبعدها الروحي والأخلاقي من قضية شعب كوردستان عبر التاريخ، فتحولت خلال السنوات الأولى من ستينات القرن الماضي بقيادة مصطفى البارزاني إلى مؤسسة قومية وطنية ضمت بين صفوفها كل شرائح المجتمع وطبقاته واتجاهاته من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين يجمعها وحدة الهدف وحرية الفكر والتعبير وسمو الأخلاق ومصداقية التعامل والسلوك وشجاعة الفرسان وبطولتهم، وسرعان ما تحول أفرادها إلى رموز اجتماعية وشعبية وأصبح مصطلح (البيشمه ركه) من المصطلحات العسكرية والوطنية ذات الوقع النفسي والتأثير الوطني البالغ في سيكولوجية المجتمع ومفهومه للوطنية والمقاومة، متتطابقة وترجمتها في العربية في توصيف أولئك الرجال الذين يستبقون الموت لتحقيق الهدف الأسمى.

منذ أن بدأت البيشمه ركه كقوات منظمة لحماية الجمهورية الفتية والدفاع عنها في مهاباد عام 1946م وما بعد ذلك في ثورة أيلول 1961م، وضعت نصب أعينها الجانب الأخلاقي لأفرادها خاصة في التعامل مع العدو، باعتماد قوانين ومواثيق الحرب المتفق عليها دوليا، بما في ذلك معاملة الأسرى والجرحى والقتلى، حيث اعتمدت عملية اعداد عناصر هذه القوات على توجيهات صارمة ومشددة اساسها إن الجندي والضابط في جيش العدو ليسوا أعداءً بل مغلوبين على امرهم ومحكومين بتنفيذ إرادة النظم السياسية في العراق، وعليه وجب التعامل معهم في حالات الأسر والإصابة كأفراد من أفراد البيشمه ركه، والاعتناء بهم أكثر من ذلك، حيث شهدت كافة تشكيلات البيشمه ركه وفي كل سنوات الحرب منذ اندلاع الثورة الكبيرة في أيلول 1961 وحتى سقوط الفيالق الثلاث من الجيش العراقي في اسر قوات البيشمركة أروع الصور في الفروسية والتعامل بأخلاقيات قل نظيرها في الشرق الأوسط والعالم الثالث، ويتذكر الآف الجنود والضباط العراقيون باعتزاز أيام أسرهم لدى قوات البيشمه ركه منذ اندلاع العمليات العسكرية في أيلول 1961 وحتى سقوط النظام عام 2003 وكيف كانت عناصر هذه القوات تتخلى عن حاجياتها الأساسية في التجهيزات الإدارية والغذائية لصالح أسراهم من القوت العراقية، في الوقت الذي كانت نفس هذه القوات تقتل أسرى البيشمه ركه وجرحاهم وتحرق قراهم وتنهب ممتلكاتهم وتهدم بيوتهم وبساتينهم، ورغم ذلك لم تحدث أي حادثة انتقام وحافظت هذه القوات على ثوابتها الأخلاقية والقانونية التي اعتنقتها منذ الانطلاقة الأولى للثورة الكوردية، ولم تتعامل بالمثل مع العدو لأيمانها بعدالة قضيتها وارتقاء مستوياتها الأخلاقية والحضارية، كونها تمثل إرادة شعب وتاريخ وطن انتهكته قوى الظلم والظلام عبر عشرات السنين، ولم تنحدر في كل تاريخها إلى مستويات متدنية في الانتقام أو الاغتيالات الفردية أو الجماعية أو عمليات الإرهاب كسلوك لفرض القوة او الهيمنة والرعب، بل لم تؤمن بالعنف طريقا أو أسلوبا في الحياة إلا دفاعا عن النفس ومقاومة الطغيان والاحتلال والاستبداد، وبذلك نالت خلال سنوات قليلة احترام وتقدير كافة أوساط الشعب وشرائحه وطبقاته ومكوناته الدينية والاثنية وفعالياته السياسية حتى من أولئك الذين كانوا يحاربونها منذ عشرات السنين واعترفوا بأخلاقياتها وفروسيتها في الحرب والسلم، وبذلك استحقت أن تكون مؤسسة كوردستان العسكرية للدفاع عن الشعب وحماية مكاسبه وامنه ومستقبله، كل الشعب وليس الكورد فقط، حيث انتظم بين صفوفها الآف البيشمه ركه العرب والتركمان والكلدان والآشوريين الذين كانوا يقاتلون من اجل قضاياهم العادلة، بغض النظر عن آرائهم وأفكارهم ورؤاهم السياسية، والتي كانت تتقاطع في بعض تفصيلاتها عن الخطاب السياسي والفكري لهذه القوات، ويتذكر الشيوعيون والليبراليون العراقيون من غير الكورد وحتى القوميون العرب ممن آمنوا بأحقية القضية الكوردية وكثيرا من الفعاليات السياسية الدينية والمذهبية العراقية، كيف كانت مقرات هذه القوات ملاذا آمنا لهم ولكل القوى التي اضطهدتها النظم السياسية العراقية منذ قيام الدولة وحتى انهيارها، دونما التدخل في شؤونها السياسية وحتى العسكرية.


ومع تقادم السنين وتراكم الخبرة وارتقاء الأساليب المتحضرة في السلوك والتعامل أصبحت هذه القوات جزء كبيرا من الوصف الوطني والهوية القومية والحضارية لشعب كوردستان، بحيث لا يكاد المرء يعرف وطنا اسمه كوردستان دونما البيشمه ركه، ولذلك فهما صفتان متلاصقتان، تصف الواحدة الأخرى وتعرفها ولا يمكن الفصل بينهما لأنهما صنوان لا يفترقان.

وفي حرب العالم ضد الإرهاب المتمثل بتنظيم ما يسمى بالدولة الإسلامية داعش، أصبحت البيشمركة رمزا عالميا لمقاومته، وعنوانا لشجاعة أفرادها واحترامهم للقيم العليا للإنسان، حيث استطاعوا تحطيم أسطورة الخوف من داعش بل وتحطيمها على حدود الإقليم وطردها من كل الأراضي والقرى التي استباحتها بعد آب أغسطس 2014م، وبرغم كل الجرائم الهمجية التي اقترفتها هذه المنظمة الإرهابية فقد حافظت قوات البيشمركة على قيمها وثوابتها في التعامل مع أسراهم وجرحاهم، وقد شاهد مئات الملايين من البشر في كل أنحاء العالم كيف تعاملت البيشمركة معهم في ساحات القتال حسب العهود والمواثيق الدولية والإنسانية والحضارية بعيدا عن لغة الانتقام، وقد أكدت تقارير منظمات حقوق الإنسان والبعثات الإعلامية بعد إجرائها مقابلات مع عناصر داعش المعتقلين في كوردستان بأنهم يعاملون معاملة إنسانية ويتم التحقيق معهم ورفع قضاياهم إلى المحاكم للبت فيها وإصدار الأحكام

البيشمركة اليوم تمثل إرادة شعب ورمز من رموز كرامته وعنفوانه، وحامية ليس لشعب كوردستان ومكاسبه ومستقبله، بل لكل مناضلي العراق عبر التاريخ، حيث كانت ملجأهم وواحتهم التي يمارسون تحت ظلالها حريتهم وانسانيتهم وكرامتهم، وهي بالتالي صمام امان للديمقراطية والفيدرالية في عراق اليوم

 

كوردستان

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات حتى الآن

الرد كضيف

هل ترغب في تلقي إشعارات؟
ابق على اطلاع بآخر أخبارنا وأحداثنا.