يبدو أن روسيا التي حرصت على المواءمة بين الذراع العسكري والمبادرات السياسية، وانتقاله من مرحلة الدفاع إلى الهجوم، قد حققت تقدماً في المهام التي وُكلت الى نفسها في سوريا، وحققت ذلك من خلال مزيج بين الكفاءة والمرونة والتنسيق بين العمل العسكري والعمل السياسي كعامل فعّال في الحرب السورية، مع إمكانية تحدّي الولايات المتحدة الأمريكية، وتجنّب تضارب المصالح بين القوى الفاعلة، وفق مبدأ تكامل الأدوار.
فالانخراط الروسي المباشر في الصراع السوري لم يأتي كحالة إسعافية لحليفهم السوري فحسب، بل جاء تعبيرًا عن دراسة حيثيات المرحلة، بهدف استغلال أوضاع سوريا المتأزمة، من أجل حزمة صراعات دولية بينهم وبين الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وفق قاعدة اغتنام الفرص ودرء المخاطر .
وقد تباينت الأدوات والأهداف المرحلية وطبيعة العلاقات بين موسكو وغيرها من القوى الإقليمية والدولية المعنية بالملف السوري، التي سابقت الزمن في تنفيذ استراتيجيتها في سوريا، لفرض نظام الأسد، كأمر واقع، رغم مقررات جنيف1، والقرار الأممي 2254، بإصلاحات دستورية، تعيد إنتاج النظام، بمشاركة صورية من المعارضة، وبالتنسيق مع أنقرة، مستغلة رفضها للعامل الكوردي شرق الفرات، متناغماً مع الشماعة التركية التي تتصنّع بالرعب أمام العالم من شبح الإنفصال (الكوردي)، وبعد أن حاصرتها في ملف إدلب، بين مطرقة القبول بالشروط الروسية، وسندان التسبب بأزمة نزوح تفوق احتمال تركيا باستئناف القصف.
ثم التكفل في إتفاق خفض التصعيد، وأخذت على عاتقها إنهاء تواجد التسلح الـ(كوردي) في المناطق الكوردية السورية المتاخمة للحدود التركية، وتهيئة الأرضية الآمنة للإحتلال التركي للمناطق الكوردية التي جعلتها منفى للمرتزقة التي باتوا عبئاً عليها.
كتب مايكل كوفمان، الباحث في "مركز التحليلات البحرية CNA والمسؤول عن برنامج الدراسات الروسية فيه، "إذا لم تحقق الحملة في سوريا انتصاراً للروس، فإنها بالتأكيد تسببت بإخفاق معارضي التحالف الذي تقوده روسيا".
ويضيف كوفمان إن "موسكو حين قررت التدخل في الحرب السورية في سبتمبر 2015، كانت ترى أن نجاح تدخلها سيحقق لها انتصاراً على ثلاث جبهات: منع سقوط حليفها النظام السوري، ثم كسر عزلتها السياسية وإجبار الولايات المتحدة على التعامل معها كندّ، وإقناع الشعب الروسي أن روسيا قوة عظمى في السياسات الدولية، وفكرت روسيا أيضاً في أن تدخلها في سوريا سيحول دون عودة الجهاديين الروس إلى أراضيها ما يهدّد أمنها".
فكانت لروسيا مع مضي الوقت تحقيق ذلك بدون خسائر بشرية كبيرة لأنها لم تحرّك قواتها على أرض الجبهات الساخنة، ولجأت حين الضرورة إلى الاستعانة بمرتزقة توفّرهم شراكات خاصة متعاونة مع وزارة الدفاع الروسية، الى أن اضحت روسيا صانعة قرارات محتمل، وربما موازٍ للنفوذ الأمريكي، ولكن الأهم، يبقى كيفية نجاح موسكو في تحقيق مكاسب سياسية تواكب مكاسبها الميدانية، حيث حققت على الأقل نصراً جزئياً في سوريا على الجبهات العسكرية والسياسية معاً، لتبدأ موسكو بالضغط على خصومها وتفاوض معهم كلاً على حده لتغيير مواقفهم، على الرغم من أن الطريق إلى تحقيق هذه النتيجة لم يكن سهلاً، خاصة في ظل التوتر الكبير مع أنقرة حول التعاطي مع وحدات حماية الشعب الـ(كوردية)، ونجحت موسكو في كسب اعتراف الطرفين بتأثيرها.
كما أفلحت روسيا في الحفاظ على علاقات بناءة مع الدول المتنافسة في سوريا، من السعودية إلى إيران، ونجحت في نسج تفاهمات مع قوى يمكن أن تفسد عملها مثل إسرائيل، ثم كسبت روسيا قبولاً أمريكياً كفاعل رئيسي في مستقبل سوريا، التي أقنعتها بأن (سياسة تغيير النظام السوري غير واقعية وبأن دعمها للمعارضة لا يمتلك أية فرصة لتحقيق نجاحات).
ونجحت موسكو في الضغط من أجل تشكيل معارضة سورية تقبل بتقديم تنازلات في مفاوضاتها مع النظام، وتمكنت سياسيًّا بالاتكاء على تركيا وإيران من إطلاق مسار أستانا ، التي أسست لما يُعرَف بمناطق خفض التصعيد، رغم تباين الموقف الروسي والإيراني والذي ظهر جلياً أثناء الإحتلال التركي لعفرين الكوردية، وإقصاء روسيا المتكرّر لإيران، واستمرارها بالتضييق على ميليشياتها، ثم العودة الى الحفاظ على الهدوء في أقصى الشمال، بوضع العصي في عجلة إتفاقها مع أنقرة بشأن تواجد الكوردي المسلح، عبر إلقائها طعمة بإغراء شباب المنطقة عبر افتتاح مركز لتجنيد المتطوعين، ضمن صفوف قوات جديدة تابعة للنظام وتحت إشراف روسي مباشر، في مدينة القامشلي الكوردية، مع مغريات كبيرة منها مالية واخرى تخصّ أوضاع الشباب الإدارية وأمورهم القضائية، وذلك لتحييدهم عن الحراك المسلح الكوردي الذي يتخذه الأتراك ذريعة لخلق التوتر.
فالروس الذين أرادوا الالتفاف على مضامين القرارات الدولية، كي يستطيعوا الاحتفاظ بدور يوازي قدراتها السياسية والاقتصادية في سوريا، والتي تمتدّ إلى قاعدتها الاستراتيجية البحرية المتمركزة في طرطوس، على ساحل البحر الأبيض المتوسط، قاموا بإعادة النظر بجوهر سياستهم، لحماية جميع مصالحهم حتى الإقتصادية منها، عن طريق تجديد استثمارات في قطاع الطاقة السوري وتوسيعها، كي يرغم كل من يطمح الى شحن منتجاته النفطية عبر مرافئ وخطوط أنابيب سوريا على التفاوض معهم مباشرة.
أما ردود أفعال أميركا الساعية لحماية مصالحها في المنطقة، ومصالح حلفائها في الخليج العربي، ومصلحة إسرائيل وأمنها، في استراتيجية مترنّحة، اختصرت على تحميل نظام الأسد مسؤولية ارتكاب المجازر وإطلاق أحكام بالضغط على النظام ، وذلك بسبب العلاقات التي تربطها بالنظام الإيراني، وقد تفاقمت بتوترات عميقة مع الحليف التركي، ما أدى إلى تقاربه مع روسيا، واتفاقات خفض التصعيد والمصالحة، وصولاً إلى إتمام صفقة أس-400، والتلويح بإمكانية شراء طائرات السوخوي الروسية، ما يعني المزيد من الانهماك الأميركي في الملف السوري، مع استمرار حصول أنقرة على منظومات ردع روسية، لتجد الولايات المتحدة نفسها في مأزق متعدد الجوانب، بدءاً من المنافسة الروسية – الإيرانية، بتوغلها العسكري والسياسي والاقتصادي ضمن دوائر النظام السوري، كورقة ضغط بيد روسيا لتقديم واشنطن التنازلات، انتهاءاً باحتواء إفشال مشروعات تغيير النظام، من خلال تعطيل مجلس الأمن، عن اتّخاذ أي قرار يشرعن العمل العسكري ضد النظام، وتمييع الدبلوماسية الدولية والأممية من خلال إصدار بيانات وقرارات غامضة وغير حاسمة.
أما جوهر الأزمة الروسية تكمن في مواجهة أسئلة يفترض أن توجهها إلى نفسها وهي:
هل حقاً أضحت روسيا صانعة القرارات موازٍ للولايات المحدة؟ وهل حقاً حققت الإنفصال بين الولايات المتحدة وحليفتها العنيدة (تركيا) وإمتلكت ناصية الحلم التركي؟؟ فيما يبدو أن الحل الأمثل بالنسبة للولايات المتحدة ليس إيجاد حل وسط مع أنقرة وموسكو، إنما ترتيب استفزاز يضع روسيا وتركيا في خندقين مختلفين، وعلى هذا الأساس يواصل الأمريكيون مسارهم غير المعلن، لإنقاذ العصابات المبعثرة المتبقية التي أنشأوها هم أنفسهم ويرعونها، كأحد عناصر زعزعة استقرار الوضع.
فهل حقاً ضمنت نفوذها من المد الإيراني؟؟ وتراضت الطمع الأمريكي؟؟ وأنها تفادت حرباً قادمة، حسب السياسات التي تنتهجها والنجاحات التي حققتها ؟؟
تلك أسئلة يجيب عليها الروس وهم ينأون بانفسهم عن التصعيد الأخير في المنطقة، للحفاظ على ما حققوه من تقدًم خلال العقد الأخير، كما أن سلوك الأنظمة التي قد يؤدي إلى اندلاع شرارة حرب تعصف بكل ما رتّبت له.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن