Erbil 15°C الجمعة 26 نيسان 17:53

إعلامنا.. "يركض والعشا خباز"

منظومة إعلامنا كانت دائماً مشلولة في المفترقات الحاسمة التي مرت بهذا البلد، إذ كان كثير منه تحريضياً، ومشيعاً للكراهية، ومتميعاً مع الخطاب السياسي بصرف النظر عن نوع ذلك الخطاب ومدى خدمته للمجتمع والدولة، ومتهاوناً مع التحديات المصيرية التي يتعرض له الواقع الشعبي، وبدل أن يعمل على تحقيق وظائفه ومنها تشكيل ثقافة التغيير، جرى توظيفه سياسياً وثقافياً واجتماعياً من القوى الفاعلة في المشهد العراقي

 

 

سعد الهموندي

إعلامنا يكدح ويركض وفي نهاية المطاف لا يأكل سوى الخباز، وهو الطعام الذي لا يحتاج إلى جهد، طعام ينبت في الطبيعة من تلقاء نفسه، ولا يحتاج إعداده سوى للماء والملح، فأين ذهب تعب الكد والجهد طيلة النهار؟ إنه المثل الأقرب إلى إعلامنا الذي ينهك كوادره بالعمل والأموال لكن في النتيجة لا رسالة ولا هدف، وكأن كل ما فعله لم يقدم شيئاً سوى الخباز.

وأنا هنا لست بصدد الحديث عن الفنيات أو الصورة أو حتى الهدف الواضح للعيان، بل من أجل تسليط الضوء على إعلامنا الذي لم يعمل على تعزيز السائد من القيم، بل ترك القيم الجديدة تتشكل كيفياً، وهذا الكيف ليس سوى دليل واضح على "خنوع الإعلام" أو إذا أردتُ أن أقرب التشبيه، إعلام الخباز، فهو إعلام الخنوع والذي ما جاء إلا بسبب ضغوطات الواقع، وبما أن إعلامنا إعلام أسير وعبودي وبعيد كل البعد عن الحرية، فمن الطبيعي أن يكون إعلام الخنوع والخضوع للسلطة السياسية التي تحركه والتي في كثير من الأحيان تحركه وفق مصالح لشخصيات سياسية فردية، والسؤال المهم هنا لماذا فشل إعلامنا في مواكبة ذهنية الآخر؟، ولماذا بات إعلاما تصعيديا وتسويقيا يعمل بمهنية فقط عندما يبدأ في زج الأمة في صراعات لم تجن منها إلا مزيداً من التخلف؟.

فهذا إن دل على شيء فيدل على أكبر مصيبة قد يمتهنها إعلامنا ألا وهي "قلة الوطنية"، فعدم إيلاء الإعلام الأهمية الكافية لقيمنا وتاريخنا ووطنيتنا هو ما يزيد اليوم من اتساع مساحة التناقضات التي يتسم بها سلوك الجمهور، وهذا يقتضي العمل على تكييف منظومتنا الإعلامية بتبديل عناصر التأثير فيها، خاصة وأن المال السياسي نجح في جعل الإعلام كلبه المطيع القادر في الهيمنة على فكر المواطن العراقي خاصة وأن الإعلام العراقي يتفرد بمجموعة من المعوقات التي فرضتها خصوصية الثقافة السائدة والظروف السياسية المتأزمة التي عاشها العراق خلال العقود الخمسة الأخيرة، وخاصة المدة التي أعقبت عام 2003، ليتحول الإعلام من أداة في سياسة قطبية واحدة، إلى أداة جارحة بيد السلطات السياسية المتصارعة، أما لماذا إعلامنا "الخباز"؟ فببساطة شديدة لأنه لم يتحمل مسؤوليته الوطنية!!.

فمنظومة إعلامنا كانت دائماً مشلولة في المفترقات الحاسمة التي مرت بهذا البلد، إذ كان كثير منه تحريضياً، ومشيعاً للكراهية، ومتميعاً مع الخطاب السياسي بصرف النظر عن نوع ذلك الخطاب ومدى خدمته للمجتمع والدولة، ومتهاوناً مع التحديات المصيرية التي يتعرض له الواقع الشعبي، وبدل أن يعمل على تحقيق وظائفه ومنها تشكيل ثقافة التغيير، جرى توظيفه سياسياً وثقافياً واجتماعياً من القوى الفاعلة في المشهد العراقي ومن ذلك التوظيف ما كان يراد به عزل العراق عن محيطه، مع أن التعددية الإعلامية تعد مظهراً من مظاهر الديمقراطية، وتتيح لحق الاتصال تجسيداً فعلياً، لكنها بالمقابل تعمل بشكل أو بآخر على تفعيل وترسيخ ثقافات فرعية أو فئوية ضيقة، الأمر الذي يجعل من هذه الثقافات في أحيان كثيرة عقبة كأداء أمام تشكل ثقافة وطنية شاملة، خاصة أن عمليات التغيير على اختلاف أشكالها لن تتحقق من دون هذه الثقافة، هذا دوناً عن خشية الكوادر الإعلامية من ثقافة التغيير خوفاً على حياتهم.

إعلامنا إعلام الخباز الذي يركض ليل نهار، يركض بالطول والعرض لكنه في النهاية بالماء وقليل من الملح يفرش مائدة طعامه، كيف لا؟!! وهو إعلام يعمل دون ضوابط وتشريعات قانونية، إعلام بات منفلتاً ويعمل على هواه، ويعبر عن مصالح قوى متنفذة من دون مراعاة للمصالح والثوابت الوطنية، إعلامنا ورغم تعدد منصاته وبدل أن يكون داعماً لديمقراطية التعدد، وأداة لحل الأزمات والصراعات، انحرف ليتحول نحو مسارات تتناقض مع أهدافه الحقيقية، لذلك بإمكاني القول هنا إننا مقبلون على مستقبل قد يكون اسوأ من الحاضر، ذلك أن الإعلام يشترك مع مؤسسات التنشئة في عدم تبلور منظور علمي واضح للتعامل مع قضايا الماضي والحاضر والمستقبل، ففي الوقت الذي شغلت ثقافة الماضي وأحداث الحاضر مساحة من اهتمامه وبطريقة كيفية وعشوائية، فضلاً عن هيمنة منظورات ايديولوجية دينية وسياسية، نجده قد أهمل ثقافة التغيير التي هي ثقافة المستقبل، ويبدو أن جانباً من ذلك الإهمال يعود إلى الجهل بهذه الثقافة.

فاليوم من الضروري أن يخضع الإعلام في العراق الذي يشهد تحولات سياسية متسارعة إلى مرحلة انتقالية تتاح فيها الفرصة للجهات العليمة أن تنظم الحركة الإعلامية وخاصة إدارتها وبما يتوافق مع هذا التحول، وبعكسه سيشهد العراق بدء مرحلة الفوضى الإعلامية، وعندها سيشكل أحد العوائق المؤثرة في عملية التحول، مع تشكيل ثقافة التغيير، ففي كل المجتمعات وعلى مدى عصور كان الإعلام بدءاً من القصيدة العمودية والقصيدة المسرحية والشعرية هو من يشكل ثقافة المجتمعات، ليتحول إعلامنا اليوم إلى إعلام "الخباز" الذي يركض ويركض دون أية نتيجة حقيقة، وليبقى السؤال متى سيستيقظ إعلامنا من جهله ويتحول من أكلة الخباز إلى موائد الثقافة الفارهة.

الأخبار العراق الشرق الاوسط

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات حتى الآن

الرد كضيف

هل ترغب في تلقي إشعارات؟
ابق على اطلاع بآخر أخبارنا وأحداثنا.