واقع النفط في العراق
اكتشف النفط في العراق لأول مرة في محافظة كركوك عام 1927، وبدأ إنتاجه وتصديره بعد ذلك بسبع سنوات. وقد مولت عوائد النفط إنشاء دولة العراق الحديثة إبان العهد الملكي الذي أقيم في العام 1921. ومع اكتشاف المزيد من الحقول النفطية في شمال ووسط وجنوب العراق وارتفاع وتأئر الإنتاج والتصدير أصبح النفط شرياناً للاقتصاد العراقي والمصدر الرئيسي لمداخيله المالية. ففي موازنة العام 2024، قدرت الإيرادات العامة بـ 111 مليار دولار، منها إيرادات نفطية قدرت بـ 89 مليار دولار (تمثل 80% من الإيرادات العامة)، و إيرادات غير نفطية قدرت بـ 21 مليار دولار فقط (تمثل أكثر من 19% من الإيرادات العامة). في الوقت الذي تجاوز مجموع النفقات 162 مليار دولار، وبذلك يكون العجز المخطط في الموازنة يقارب 49 مليار دولار. واضافة الى ذلك، فعند احتساب الموارد الاقتصادية الأخرى المرتبطة بالنفط، فإنه نسبة اعتماد الموازنة العامة على النفط ستتجاوز 90% وهذه النسبة لوحدها تؤشر خللاً كبيراً في هيكلية الاقتصاد العراقي.
وتشير هذه الأرقام في الوقت ذاته إلى أمرين، أولهما ضرورة العمل على إصلاح الاقتصاد الريعي للبلاد وتقليل الاعتماد الكبير على النفط وتنشيط ركائر الاقتصاد الأخرى من زراعة وصناعة وسياحة وغيرها عبر خطط علمية رصينة للاصلاح الاقتصادي تمنح الأولوية في البرنامج الحكومي. الأمر الثاني، وللأهمية الكبيرة للنفط في اقتصاد البلاد، تستلزم إدارة رشيدة ومهنية للثروة النفطية والقطاع النفطي والغازي من قبل الحكومة العراقية في كافة مفاصلها بالشكل الذي يضمن استدامة وتنمية الثروة النفطية وادارة مثلى للعوائد المالية لهذا القطاع الحيوي. و ينتج العراق حالياً أكثر من 4 ملايين برميل من النفط يومياً ويصدر، وحسب مقررات تحالف الأوبك بلس، 3.3 مليون برميل يومياً، وبذلك يحتل المرتبة الثانية بين أكبر مصدري للنفط ضمن منظمة الاوبك، ويمتلك احتياطيات نفطية (تقدر بـ 152 مليار برميل) تضعه في المركز الخامس على مستوى العالم.
إشكالية تصدير نفط الإقليم
كانت قضية إدارة حقول النفط والغاز في إقليم كوردستان العراق موضعاً لخلافات استمرت لسنوات بين الحكومة العراقية الاتحادية وحكومة الإقليم وارتبط هذا الخلاف بحصة الإقليم من الموازنة العامة والتي لم تحظ بانسيابية الإرسال وحسب، وكانت تقطع لأشهرعديدة منذ العام 2014. وقد حصل تقارب كبير وتفاهمات عدة بين الحكومة العراقية برئاسة السيد محمد شياع السوداني و الكابينة التاسعة لحكومة الاقليم برئاسة السيد مسرور بارزاني في الملف النفطي والملفات المشتركة الاخرى، حيث أبدت الحكومتان رغبتهما الجادة في حلحلة كافة الملفات العالقة بينهما. وبشأن الخلاف حول تصدير النفط بين الحكومة الاتحادية و إقليم كوردستان، كانت الحكومة العراقية ممثلة بوزارة النفط فيها قد أقامت دعوى قضائية في المحكمة التجارية الدولية في باريس في شهر مايس، العام 2014. وبعد نحو تسع سنوات، وتحديدا في آذار 2023، أصدرت لجنة التحكيم للمحكمة التجارية الدولية قرارها والذي حصر سلطة تصدير نفط الإقليم عبر الأنبوب الواصل إلى ميناء جيهان التركي بوزارة النفط العراقية. وبالتالي أصبح لزاماً على وزارة النفط الاتحادية أن تقوم بتصدير 400،000 برميل يومياً من نفط الإقليم عبر خط الأنابيب الواصل إلى ميناء جيهان التركي والقيام بكل التسهيلات والإجراءات الفنية والقانونية والمالية التي تسهل عملية التصدير.
وتجاوبا مع قرار محكمة باريس التجارية ومن أجل الاستمرار بتصدير النفط وديمومة عمل الشركات الأجنبية المتعاقدة مع حكومة الأقليم في تشغيل (انتاج ومعاملة ونقل وتصدير) حقول النفط في الإقليم، أبرمت حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية اتفاقا رسميا في الأول من نيسان من عام 2023. وقع هذا الاتفاق برعاية رئيس الحكومة العراقية السيد محمد شياع السوداني ورئيس حكومة إقليم كوردستان السيد مسرور بارزاني وتضمن الاتفاق أن تكون مهمة التسويق لنفط الاقليم على عاتق شركة تسويق النفط العراقية (سومو) وأن تودع إيرادات البيع في حساب بنكي تديره الحكومتان ويخضع للمراجعة المالية المشتركة من قبل ديوان الرقابة المالية الاتحادي و ديوان الرقابة المالية لحكومة الإقليم.
قانون الموازنة العامة
بعد مناقشات مطولة في البرلمان العراقي وتأخير تجاوز النصف عام، صدر قانون الموازنة العامة رقم 13 للعام 2023 وهو قانون يشمل موازنة الأعوام 2023 و 2024 و 2025. وقد أكد مضمون هذا القانون (تحديدا المواد 12 و 13) على مسؤولية وزارة النفط الاتحادية في تسويق النفط المنتج من الإقليم بواقع 400،000 برميل يومياً الى خارج البلاد أو استخدامه للاستهلاك المحلي. وهذا التفويض يتضمن أن على الوزارة (أي وزارة النفط) أن تعالج كل الجوانب الإدارية والفنية والمالية التي تسهل تصريف هذا الإنتاج سواء كان للتصدير أو للاستهلاك المحلي عبر نقله إلى المصافي المحلية وتحويله الى مشتقات (منتجات) نفطية.
اليوم وبعد انقضاء أكثر من 21 شهراً على توقف تصدير النفط و20 شهراً من اتفاق نيسان بين الحكومتين و 18 شهراً على صدور قانون الموازنة العامة، لا تزال وزارة النفط العراقية، ورغم جهود المخلصين فيها، عاجزة عن وضع تقديرات مقبولة لانتاج ونقل نفط اقليم كوردستان. التقديرات المقبولة برأينا يفترض أن تراعي مخاطر الاستكشاف والظروف الجيولوجية والطبوغرافية لمناطق الحقول النفطية وكذلك البنى التحتية المتوفرة للصناعة النفطية وحجم الانتاج النفطي ونوعه، وصولا الى تقديرات واقعية تتجاوز التقديرات المتدنية التي وردت في جداول قانون الموازنة، على الأخص بالنسبة لتقديرات الانتاج والتي تعادل نصف التقديرات التي قدمتها، عبر مخاطبات رسمية، وزارة الثروات الطبيعية في الاقليم. حيث أصبح تقدير كلف الإنتاج والنقل العقبة الرئيسية أمام استئناف تصدير النفط طوال الأشهر العشرون الماضية، رغم تبادل العديد من المراسلات الرسمية و الزيارات المتكررة للوفود الرسمية.
خسائر توقف تصدير النفط
ًألحق توقف تصدير نفط الإقليم خسائر مالية جسيمة بأطراف عدة، أولها الاقتصاد العراقي والمالية العراقية التي خسرت إيرادات مبيعات لنفط كان بالامكان تسويقه في هذه الفترة. وعند احتساب معدل تصدير 400،000 برميل يوميا وبمعدل سعري 70 دولار للبرميل الواحد (وهو الرقم المثبت في قانون الموازنة)، تكون الخسائر اليومية لتوقف التصدير 28 مليون دولار، أي 840 مليون دولار شهريا و أكثر من 10.2 مليار دولار سنويا. وحيث أن مدة توقف تصدير والمستمر لحين كتابة هذه السطور تتجاوز العشرين شهراً، فيصبح بذلك اجمالي الخسارة المالية أكثر من 17 مليار دولار.
الخاسر الثاني هي الشركات النفطية الأجنبية العاملة في الاقليم والتي استثمرت في الصناعة النفطية (تحديدا في قطاعي الإنتاج والنقل) عشرات الملايين من الدولارات لإقامة قاعدة وبنية تحتية صناعية للنفط والغازفي الإقليم. هذه القاعدة الصناعية، ورغم محدوديتها مقارنة بمثيلاتها في جنوب العراق، ستكون ركيزة داعمة للاقتصاد العراقي النفطي. ومن غير المستبعد أن تقوم بعض الشركات النفطية المتضررة برفع دعاوى قضائية لدى المحاكم التجارية الدولية للمطالبة بتعويضات من الحكومة العراقية عن خسائرها طوال مدة توقف الانتاج والتصدير. ثمة اشكال آخر، وهو أن إيقاف العمليات النفطية في الحقول والآبار المنتجة والأنابيب الناقلة لفترات طويلة سيخلق تعقيدات فنية متعددة تحتاج لمعالجتها صرف المزيد من الوقت والاموال لإعادة تأهيل منظومة المكائن والآلات إلى مستويات الإنتاج السابقة، وهذا يعني كلف إضافية تضاف إلى كلف التشغيل الروتينية التي كانت تصرف سابقا.
وفي الجانب التركي، هنالك أيضا العديد من الشركات التي تخسر من توقف التصدير، ونقصد بها الشركات التي تعمل في حراسة وتشغيل وصيانة الأنابيب ومحطات الضخ وتلك التي تعمل في التحميل والتفريغ والخزن في ميناء جيهان التركي. وهذه الشركات تستحق، وبموجب اتفاقية الأنبوب العراقي التركيITP غرامات على الجانب العراقي جراء توقف التشغيل والضخ عبر خط الأنابيب لأي سبب كان.
كما خسرت أسواق الطاقة العالمية، خاصة الاوربية، إمدادات مضمونة لـ 400،000 برميل من النفط يومياً، كانت كان يمكن إيصالها بانسيابية إلى أسواق أوروبا الغربية وأسواق أميركا الشمالية، خاصة بعد أن أصبحت المسارات التقليدية للتصدير عبر الخليج العربي والبحر الأحمر غير آمنة، إذ أصبح الكثير من الشحنات التجارية وبضمنها النفطية معرضا لتهديدات وهجمات مدمرة من قبل مليشيا الحوثيين في اليمن. وبالتالي فأن المنفذ الشمالي للنفط العراقي عبر ميناء جيهان التركي يمثل الطريق الأمثل لإيصال النفط العراقي إلى الأسواق الأوروبية. اضافة الى ذلك، فان هذا المنفذ يمكن زيادة قدراته التصديرية إلى ما يقارب المليون برميل يوميا، فيتيح فرصة لتصدير كميات النفط الفائضة من انتاج محافظات عراقية أخرى مثل نينوى وصلاح الدين وكركوك إضافة إلى نفط الإقليم.
مقترحات حكومية
تسعى وزارة النفط والحكومة العراقية حالياً إلى زيادة منافذ التصدير وعدم الاقتصار على موانيء البصرة حصرا، هذه المحاولات أصبحت أكثر الحاحا بعد التوترات الامنية المستجدة واحتمال تعرض المنشآت النفطية في منطقة الخليج لتهديدات وهجمات عسكرية بين جهات متصارعة في المنطقة. وفي هذا السياق، تخطط الحكومة العراقية لإنشاء خط أنبوب نفطي يصل بين البصرة في جنوب العراق وميناء العقبة في الأردن والذي قد يستغرق عدة أعوام ويكلف الخزانة العامة قرابة 17 مليار دولار. وعليه، فإن أحياء المنفذ الشمالي لتصدير النفط العراقي والذي يمتلك بنى تحتية متكاملة وتعمل بكفاءة منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي سيكون اختيارا مفضلا ولا يدعو إلى تردد في القرار بشأنه.
تقدمت الحكومة العراقية قبل نحو أسبوعين بمقترح أرسل للبرلمان لتعديل المادة 12 من قانون الموازنة العامة والتي تتعلق باحتساب كلف النقل والإنتاج لنفط الاقليم عن طريق الاستعانة بجهة استشارية فنية دولية متخصصة تضع تقديرات عادلة لكلف الانتاج والنقل لكل حقل من حقول الإقليم. وهذا التعديل المقترح للمادة 12 سيكون كفيلا بكسر حالة الجمود في ملف إعادة التصدير وإيقاف خسائر كبيرة في الإيرادات العامة. ومن المؤسف أنه وبسبب التجاذبات السياسية والحزبية تحت قبة البرلمان تأخر التصديق على هذا المقترح تحت حجج واهية متعددة، دون اعتبار لخسارة يومية وتفريط بعوائد مالية لاتقل عن 28 مليون دولار يوميا.
نتأمل أن تعمل لجان المالية والنفط والغاز في البرلمان بروح المسؤولية والمواطنة وأن تعجل في دراسة المقترح الحكومي والذي صيغ بعد استشارة خبراء وفنيين واقتصاديين في وزارة النفط، ثم المصادقة على تعديل هذه المادة لأن ذلك سيخدم الاقتصاد العراقي والصالح العام. والمهم في التعامل مع المواضيع الاقتصادية والمالية التي تحال للبرلمان لإصدار التشريعات بشأنها أن تراجع بمهنية وروح وطنية بعيداً عن التأثيرات والتجاذبات السياسية والأجندات الداخلية والخارجية التي قد لا تخدم المصلحة العامة ولن تحقق منافع لاقتصاد البلاد ينتظرها الشعب العراقي الصابر.
البروفيسور د. كوفند شيرواني
أستاذ جامعي وخبير نفطي
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن