صباح يومً من أيام الشتاء وخلال سرعة اللحظات وجمع الكتب وما احتاجه لمحاضراتي في ثالث يوم من بداية العام الدراسي في جامعتي فتحت النافذة كي أرى درجة الحرارة وكانت الأجواء مليئة بالضباب والبرد شتوياً قارص. فبدأت في اختيار ملابسي وتنسيق الوانها في ذروة وفرحة الحياة الجامعية والاستعداد لعالمي الجديد ومستقبلي المقبل. سمعت امي وهي تناديني حبيبتي الفطور جاهز وكما هي العادة تستفيق قبلنا جميعا وتعد لنا الفطور والشاي والخبز الحار بلا كلل ولا ملل. وحين جلست الى طاولة الإفطار وجدت امي تضع لي في حقيبتي الصغيرة بعض الساندويشات وعصير البرتقال وكأنني ما زلت اول يوم اذهب الى المدرسة ولست طالبة جامعية.
تناولت افطاري على السرعة وتلاقفت كتبي ومجلداتي في يوم كان سعيداً وتملئني الفرحة فيه والأمل. اتصلت بي صديقتي رؤى التي انهيت معها دراستي المتوسطة والاعدادية وقالت انا بانتظارك وأنك قد تأخرت قليلاً. خرجت بخطوات سريعة حذره من قلة الرؤية وانتشار الضباب وعقلي تتناثر فيه الأفكار في يوم الثالث في حياتي الجامعية مع صديقتي الأقرب لعقلي وقلبي والتي رسمنا مستقبلنا سوية منذ الصغر.
كانت المسافة ما بين بيتنا ووقوف باصات الجامعة ما يقارب العشرة دقائق مشياً. ورغم السرعة والحذر الى اني كنت استنشق الهواء بهدوء النفس وارتياح كبير وكأنني احاكي السماء وانظر اليها وأقول لعلي أكون طائراً ملون الجناحين يحلق فوق الغيوم ويسبق الباص الى الجامعة لعلي استطيع ان احمل احلامي الوردية عالياً وارسمها على كل سحابة مليئة بالأمطار حتى تمطر احلامي فوق الطرقات وتلونها بجمال المنى والآمال ولعل رؤى تطير معي بجناحيها البنفسجية وتنظر الى الارض وهي فرحة تسابقني الى الجامعة.
اتصلت بي صديقتي رؤى مجدداً وقالت هل نسيتي حصتي من الفطور لأنني (جوعانة) وقلت لها دعيني أرى فتحت حقيبتي الصغيرة فوجد امي وكالعادة وضعت حصتي وحصة رؤى في كيس اخر فمنذ بداية علاقتي بها وامي تضع لنا اطيب الأكلات السريعة سوية. وقلت لها امي لن تنساك حتى وان نسيتك انا. فضحكت وقالت (وجع انتي دومج ناسيتني) وقالت ربي يحمي ماما حجية ويخليها النا سوية. علماً ان رؤى يتيمة الأبوين وتعيش مع بيت جدها المنهك من العمل والمنكسر ظهره من شدة الكبر وعناء السنين ولكنه لم يقصر معها حتى اوصلها الى الجامعة.
فكانت رؤى بالنسبة لي ولأخواتي الأقرب لنا ودائما ما تحس بأنها جزء من بيتنا وتشاركنا الافراح والاحزان وكل المناسبات. أغلقت معها الخط وسرت أسرع كي اصل ولا اريد ان يفوتني الباص وفي هذه اللحظات تذكرت بأن عيد ميلادها بعد أسبوع واتصلت بأمي وقلت لها لا تنسين موعد عيد ميلاد رؤى وعلينا ان نجهز لها كل شيء واختاري لها اللون البنفسجي الذي تحبه كي يكون لون الحفل والوردي لوني كي اشاركها الفرحة وقالت امي لا تفكري بهذا الموضوع فقد اشتريت الهدايات واعددت كل شيء وسوف نكون لها الأم والأب والاخت ونملئ قلبها بالفرحة والسعادة. كنت ممتنة من امي لأنها تشاركني بكل شيء وتقدم لي ولصديقتي ما تستطيع.
وحينها أصبحت على مقربة من الشارع الرئيسي...............
وبدون سابق انذار قد اهتزت بي الأرض وصعقت السماء وكأنها انفجار فوقعت على الأرض وتناثرت كتبي وحقيبتي وهاتفي ولم استطيع ان اسمع شيء وبعد ثواني حاولت ان اقف على قدماي واجمع كتبي وذهبت وراء أكياس الساندويش التي اعدتهم امي ولم اعلم ما حدث من شدة وقوة الصوت العالي ومن الضباب الذي منعني من رؤية ما حصل ولكني بدأت أرى الطلبة يتراكضون ولا استطيع ان اسمع شيء وارى هاتفي يرن ولا استطيع ان أرى المتصل لكثرة الغبار عليه وتلف الشاشة وحاولت التقرب اكثر واكثر فوجدت النيران تحرق باصات الجامعة ونضرت الى الأرض ملئت بأجساد الطلبة.....
وهنا ارتعد جسدي وزادت خفقات قلبي واخرس لساني وكأن هناك هاجس يقول لي حدث مكروه لصديقتي رؤى وبدأت ابحث بين أشلاء الطلبة وجثثهم بين الجريح والشهيد ابحث عن حبيبتي وصديقتي رؤى والجميع يبحث عن حياً او جريحاً ينقلوه الى المستشفى وانا أرى الجميع في شخص واحد لأنني لا املك الى هي في هذه الدنيا وبكل جنون ابحث هنا وهناك وأخيرا وجدتها والدم يرسم الحزن على وجهها والجسد مقطع فوضعتها بين ذراعي والبكاء صراخاً وأقول لها رؤى عمري حبيبتي (اكعدي ورانه محاضرات) رؤى لا تتركيني وحدي رؤى اقسم عليك بكل لحظة عشناها سوية افتحي عيونك ورفعت رأسي الى السماء وقلت لها ايتها السماء ما كنت اتمناه ان تلوني احلامي الوردية ارضي وان ترسمي أحلام رؤى البنفسجية فوق الغيوم فكيف لكي ان تخطليها بدمائها ودماء الأبرياء وخلال هذه اللحظات وصلت امي واحتضنتني بحرقة وبكاء شديد وبدأت تحاكي صديقتي الشهيدة رؤى والله اعددت اليك عيد ميلادك واحضرت لك الهدايا ورسمت صورة اباك وامك كي ترينهم معك في اول عيد ميلاد وانت في بداية السنة الجامعية رؤى حبيبتي كيف لك انت تتركي اختك وحبيبتك وتذهبين عنها......
وحينها احسست بأنها نهاية الطريق بينبي وبين صديقتي فتحركت يدي المرتجفة وكتبت بدماء رؤى على الأرض وقلت (انا لست بأنا بنفسجية الهوى وردية المنى). قصة من واقع حال وطن مررنا بها مراراً وتكراراً اوجعتنا الخلافات الساسة وحطمت امالنا انقساماتهم واضعفتنا خيانات البعض منهم وعطلت عجلة الاعمار والبناء والتطوير طائفيتهم. في وطني يحلم الشاب ويخطط ويأتي اغلب الساسة كي يدمروا أحلامه وتخطيطاته. واخيراً كم من فتاة وردية الهوى بنفسجية الفكر تعشق الحياة وتبحث عن فرصتها قد ارتفعت روحها النقية الى السماء ودفن جسدها تحت التراب مع جميع امالها واحلامها. وكم ام فقدت أبنائها وكم زوجه فقدت زوجها وكم حبيبه فقدت حبيبها وكم من مصائب مرت علينا ولكن هل تعلمون بأننا اقوى امة وأشجع شعب يقاوم كل الصعوبات واقولها قسماً بأن ما مر علينا لم نراه في بقية شعوب العالم ولكننا سرعان ما نبدأ من جديد ونرسم الامل فلا نعرف التراجع والاستسلام. نعم ودعنا رؤى وقد ولدت الالاف غيرها من العراقيات ينسجن الحب والخير والسعادة والامل في مستقبل اجيالنا المقبلة فلا توقف ولا حزن ولا يئس فنحن امة لا تهزم وشعب بعمق الحضارات جميعها.
قــصة من واقـــع وطن
بـــقلم: الكاتبة زيــــــلا حـــديد
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن