الكاتب والناقد الأدبي صبري رسول:
قراءة في كتاب الكاتبة الكردية السّورية زهرة أحمد تدخل عالَم القصة القصيرة أكثر قوة من مجموعتها الأولى، قصة وطن. فقد صدرت لها المجموعة القصصية الثانية بعنوان (أبجدية الجبل) إصدار خاص في وبطباعة أنيقة في أواسط هذا الشهر، وتقع المجموعة في 132 صفحة من القطع المتوسط، بغلافٍ فني جميل. لوحة الغلاف والتّصميم للفنان التشكيلي يحيى سلو. قصص زهرة أحمد تشقّ طريقها الوعرة في منحىً سياسيٍّ خطير، فالنصوص التي تدخل ميدان السياسة تخرجُ منه بعباءة البيان السّياسي، والأدب الذي يتناول المواضيع السياسية يفقدُ غالباً لغته السردية الممتعة أمام مزاحمة لغة الصحافة الخشنة، ورغم أنّ نصوص المجموعة تعالج الهمّ السياسي اليومي للحياة الكردية والسورية إلا أنّها حافظت على التوازن اللغوي والسّردي، في مجموعتها لا السياسة أحرقتْ أطراف الثّوب السردي، ولا السّرد الحكائي تحرّر من جاذبية الأحداث المباشرة. ربما للكاتبة مسوّغاتها في هكذا معالجة فنية، كونها تعمل في الحقل السياسي منذ سنوات. هذا ما أشار إليه أيضاً كاتب المقدمة الصديق الكاتب إبراهيم اليوسف: ((من يقرأ قصص الكاتبة زهرة أحمد يرَ أن الانشغال بالهم الوطني العام يستنفد كل حيز الكتابة الإبداعية لها، حتى لحظتها الكتابية، هذه، فهي لا تخرج عنها- لاسيما في هذه المجموعة القصصية- قيد أنملة حبر...))ص11 المجموعة مهداة: إلى قائد ثورة الاستفتاء السروك مسعود بارزاني. وتضمن ثلاثة أقسامٍ مُعنْوَنة، كل منها يحتوي على بضع قصصٍ مختلفة. نصوص زهرة أحمد وأفكارها تندرج تحت فضاءات تاريخية متنوّعة، أسبغته رائحة الحرية المنبعثة من الثورات الكردية المتلاحقة، التي لم يكتب لها التاريخ نجاحاً ولم يصيب الكرُدَ مللٌ من مواجهة غاصبي أرضهم وحقوقهم وتاريخهم. إعادة المرويات التاريخية تحريضٌ للذاكرة الكردية المسروقة، ودعوة إلى تجديد القيم التي أشعلت تلك الثورات في أجزاء أخرى من بلادها. في قصة (امرأة الجبل) تصف رحلتها من أرياف ديرك إلى الإقليم الكردي سيراً على الأقدام ((قطعت كل تلك المسافات سيراً على الأقدام في تلك الجغرافية القاسية في منطقة كوجرات في الجزيرة الكوردية، وبالرغم من كل تلك المخاطر الحدودية، لأكون شاهدة على ثورة الاستفتاء كمراقبة قانونية)). بعض القصص تحكي تاريخاً للمآسي الكردية الماضية وبعضها تؤرخ أحداثاً للمآسي الحاضرة. إنّه الأدب الإنساني في انعكاسه للحوادث البشرية، بغض النظر عن المجتمع الذي عاناها. مازلنا نتذكّر تفاصيل حزن الأب العجوز الذي تحيّر في إيجاد مكانٍ يدفن فيه ابنه الوحيد. خانته الحيلة، خذلته الشيخوخة في حمل ابنه من مكانٍ إلى آخر، وضاقت به «أرض الله الواسعة» هذه الصورة سطّرتها الكاتبة في قصتها (جياي كورمينج). ما حصل للعجوز الكردي حصل لآلاف الناس كرداً وعرباً في مدينة وقرية سورية (( حمل جثة ابنه آزاد بعد أن لملم شتات أشلائه ولفها بذلك الغطاء الصوفي الأحمر الوحيد الذي وجده بين أنقاض بيته. حمله على كتفه، ودماؤه تسيل برفق وتلون جسمه الهزيل، بعد أن سقت أرضه وأشجاره، ومضى به إلى طرقات تائهة عن تضاريسها الجريحة تنحني ألما أمام مشهد لم يسطر التاريخ له مثيل)). ص41.
في الخاصرة الغربية الرخوة من الإقليم الكردي، ويفصلها عن الجسد الآم مدينة موصل اقتحمت القوى الظلامية مدينة شنكال، حاولت ابتلاع جبالٍ عجزت عنه كلّ القوى الطامعة في التاريخ، في فعاثت في شعابها فساداً، ولوّثت طهارة سفحها، وحلّلت قداسة نسائها لرجالها القذرين. هذه المحنة صوّرتها الكاتبة في قصتها (فصول الألم اللامتناهية) مركزة على لحظات مرعبة عاشتها فتاة شنكالية خطفتها تلك القوى التي توزّع النساء على مقاتليها ليؤمّنوا الطريق إلى «جنة الحوريات» فتروي الفتاة بعد نجاتها من جحيم حياتهن بين أيدي «مَنْ ينشّر الهداية بلحاهم» ووحشية سلوكهم: ((كنت أرتجف خوفاً، أنفاسي تتصارع بعنف، أنتظر برعب ليتم اختياري من قبل أحد أولئك الوحوش، لأكون من نصيب أميرهم في الموصل)). ص60 قصص المجموعة تعكس سوداوية الحياة اليومية وتفاصيلها الصغيرة لأناسٍ وجدت أنفسها مقيدة بمصائرها المجهولة بعد فقدانها لمقومات الاستمرارية التي عصفت بها زلازل الثورات «المخنوقة والمسروقة» من قبل أنظمتها ولصوص التاريخ. القصص متّشحة بمناخٍ نوائحي، بالنواح الكردي المتنوّع، وبالحزن السوري الطاغي. قصة (ضفاف الموت) تلخّص حياة مئات الآلاف من السوريين الهاربين من جحيم بلادهم. البحار الفاصلة بين الشرق الجريح وضباب الغرب تبتلع المارة لتأمين غذاء كائناتها. إبراهيم، مثله مثل الملايين، يبحث عن فرصة نجاةٍ إلى بلاد الغرب، لكنّ الأمواج كانت أسرع إلى ابتلاع زوجته وأولاده، فألغى رحلته وعاد خائباً إلى مدينته. ((عاد إبراهيم الى مدينته الجريحة قامشلو، الى أحضان ذكرياته، إلى قبور أحبائه ليعيش أيامه الباقية من حياةٍ هربت من سيرتها الذاتية، من الموت الى الموت وللموت بقية)). هكذا تتلوّن قصص زهرة أحمد بقساوة الحياة في الجسد الكردي، فإذا كان للبشر شهوته الكبرى في القتل والتدمير، فأنّ لقوانين الطبيعة وشريعة الغابة مسرى آخر أكثر دموية. حتى عناوين القصص تفصح عن كمٍّ هائل من الألم. واعتمدت الكاتبة صياغة «المضاف والمضاف إليه» قي غالبية العناوين، فيأخذ المضافُ دلالته من المضاف إليه، ويستند إليه في قوة معناه «لبيان النوع» مثل: ((ضفاف الموت، ليلة الغدر، ذاكرة الروح، فصول الألم اللامتناهية)). أما غرض «الظرفية المكانية» في صيغة (أحلام تحت الأنقاض) يوضّح كارثية المكان، الغرض الظرفي القاتم. في صيغٍ أخرى نجد أنّ الإضافة أفادت الملكية إلى جانب التعريف، النكرة ملكٌ للمعرفة، «المضاف إليه للمضاف» مثل: أبجدية الجبل، امرأة الجبل، رسالة رودي، دموع ناز. عناوين القصص تهندس مسارات السّرد، وتضفي بكآبتها على مناخات السرد الحكائي، تربط الشخصيات بالأحداث، وتشق الطريق إلى الخاتمة. أحداث القصص، شخصياتها، مساراتها، أزمنتها، أمكنتها، اجتمعت في مصير البيت الطيني المتهالك، وهو يجمع بين جدرانه تاريخاً حافلاً بالثورات التاريخية، عاشت فيه الكاتبة طفولتها، وترى في وجوده الهش ذاكرة جمعية للوجود المصيري، لكنّها ترى أن التهالك الذي أصاب المنزل ليس بسبب الأزمنة القاسية بقدر ما سبّبتْه مغادرة سكانه وتبعثرهم في أصقاع الأرض. ((رؤية تلك الأجزاء المبعثرة من واجهة بيتنا الطيني آلمت روحي، قساوة الشتاء لم تنل من عزيمته، لكن سنوات الوحدة أنهكت قواه فسقطت واجهته الطينية المطلية بالأبيض والأزرق لتكشف عن لونه الطيني الحزين، أما أعشاش العصافير فقد بدت واضحة وعرضة للسقوط بعد أن تهدمت تفاصيلها)). بيتٌ طينيّ كان مليئاً بالحيوية والدفء بات على وشكّ السقوط، إنّه تاريخ وطنٍ يترنّح تحت ضربات موجعة، بل إنّه الوطن ذاته.
الكاتب والناقد الأدبي صبري رسول
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن