الترجمة عن الروسية: بُرهـان شـاوي
فـي العـام 1987 صدر عن دار العلم ( ناوكا) في موسكو كتاب بعنوان ( يلماز كوناي ) من تأليف الصحافي والكاتب السينمائي الأذربيجاني ( حسينوف ). والكتاب في مجمله هو لقـاء طويل، تم على مراحل، مع السينمائي الكردي، التركي، الراحل، (يلمـاز كـونـاي )، حينما كان في السـجن.
وكنت قد عزمت وقتها ( بعد صدور الكتاب ) على ترجمته الى العربية، وفعلا بدأت بترجمته، لكنني توقفت لأسباب وظروف مختلفة، مع أن الكتاب ليس كبيرالحجم ابدا.
- اسـمك الكـامل ؟
- يـلماز حميـد، وأمـي اغلو بيتون.
- أيـن ومتـى ولـُـدت؟
- في الأول من نيسان العام 1937 في قرية ( اينجـة) على مبعدة 27 كلم من مدينة( أضنة).
- لماذا يكتب البعض تاريخ ولادتك في العام 1931؟
- إنهـم يخطئون.
- حدثنا، رجاء، بالتفصيل عن طفولتك وإبداعاتك؟
- أبي وأمـي كورد. أمي من عائلـة غنية،هربت العائلة بعد زحف القوات القيصرية في الحرب العالمية الأولى. ابي على العكس من عائلة فقيرة جدا.في شبابه كان أبي مضطرا لهجر اهله خوفا من الانتقام العشائري،وحدث ان التقيا في(أظنة) وتزوجا. لم يكن عندهما مال او أرض لذا عاشا المرارة لفترة، لكن حالف الحظ أبي لاحقا،فعمل ملاحظا في شركة تابعة لاقطاعي كبير مما انعكس على حياة العائلة ماديا.
كانت طفولتي سعيدة حتى السابعة من عمري، حتى تلك اللحظة التي جاء أبي فيها بامرأة ثانية. منذ ذلك اليوم لم تهدأ حياتنا العائلية، بل تحولت الى جحيم. أبي كان يضرب أمي دائما، وكان يطردنا احيانا من البيت. في تلك الفترة، كانت لي أخت اسمها (ليلى) تصغرني بسنتين،وكانت عند بابنا قد نمت شجرة توت واثنتان من اشجار التين، وحينما كان أبي يطردنا كنا نرقد تحت ظلال هذه الأشجار.
ذات مرة اتجهنا ثلاثتنا الى مدينة (أظنة) حيث كان يعيش ابن عم لأمي، وطوال الطريق كانت أمي تبكي وتغني أغاني كوردية حزينة.. ومع أنني وأختي كنا نعرف لغتنا الأم بشكل سيء، لكننا كنا نرفع أبصارنا نحو أمنا ونذرف الدموع. عندها كنت أفكر بأن تعاستنا لن تنتهي، ووددتُ لو أموت كي لا أرى أمي تتألم.
بدأت العمل منذ الصغر.. وفي مواسم قطف الفواكه في المزارع، وقطاف القطن ( يخرج يلماز فيما بعد افلاما عن الانتقام العشائري ، وعن عمال التراحيل الموسميين عند قطاف القطن..- م )،..ثم حمالا. في القرية كنت قد انهيت الصف الثالث البتدائي، وبعد وصولنا الى (أظنة) انهيت دراستي البتدائية والمتوسطة والثانوية، أدرس وأعمل. في البداية كنت أبيع الكرزات في الشوارع، ثم بائع صحف، ثم عملت بقالا..، كما عملت ميكانيكيا لآلات التشغيل السينمائي في
الشركات. في البداية في شركة (اندفيلم)، وهي استوديو سينمائي ودار عرض، بعد ذلك في (كمال فيلم). كنتُ أتنقلُ بين القرى لعرض الأفلام، كما كنت أمثل ككومبارس أيضا، ويمكن القول ( هنا يبتسم يلماز) هكذا دخلتُ عالم السينما.
- فيما بعد أين درسـت؟
- في العام 1956 دخلت كلية الحقوق في جامعة أنقرة، لكنني درست لمدة شهرين فقط. حينها لم أجد عملا، وكما ترى كان يجب أن أعيش وأساعد عائلتي التي نمت خلال هذه السنوات حتى أصبحت أربعة أخوة وأختين. لذلك كنت مضطرا للعودة الى (أظنة). وبدأت العمل مباشرة في شركة لتأجير الأفلام.
نهاية العام 1957 وصلت الى أيتنبول مستمرا بالعمل لدى المركز الرئيس لمكتب الشركة(دار فيلم). وفي العام 1958 سجلت في كلية الاقتصاد بجامعة استنبول، لكنني لم أستطع انهاء الدراسة لأنني أُعتقلتُ العام 1961 وكان ذلك لأول مرة. بعد ذلك واصلت الدراسة ذاتيا، قرأتُ كثيرا ودرست في جامعة الحياة.
- كيف دخلت الفـن؟
- قبل كل شيء، أنا مدين بذلك لأبي وأمي. أقولها صراحة. فعلى الرغم من أن أبي كان يؤذي أمي دائما، لكنه كان يحب أبناءه كثيرا، خاصة أنا، أول العنقود. إذ كان يدفع آخر قرش لديه من أجل أن أواصل تعليمي.
أبي وكذلك أمي كانا يغنيان بالكوردية أجمل الأغاني وأكثرها حزنا. وكان أبي يعزف على الساز( السنطور)..وكانت العوائل تدعوه في الأعياد وعند ميلاد الأبناء وفي الأعراس أو عند أفراح الختان، فكان يأخذني معه في كل هذه اللقاءات. كنت أستمتع جدا بغنائه وعزفه. أما أمي فكانت خلال ليالي الشتاء الطويلة تقص علينا أقاصيص من التاريخ الكوردي، ومن الأساطير والخرافات الكوردية، فكان بيتنا يزدحم بالجيران بالذين كانوا مستعدين للسماع حتى الصباح.
كنت أود ان أكتب كل تلك الأقاصيص لكنني حينها لم أكن أحسن ذلك. وكان في قريتنا رجل عجوز اسمه (يعقوب) يغني جيدا ويعزف على ل\الساز وينظم الشعر والأغاني. وتصادقنا، انا
وهو، ..كان يحبني، فلقد علمني كيف انظم الشعر. في الثالثة عشرة ولأول مرة دخلت السينما. وفي الرابعة عشرة أصبحت كما ذكرت مشغلا لماكنة العرض.. ثم بدأت كممثل كومبارس، وهنا بدأت حياتي تدخل منعطفا.
- متى وكيف بدأت الكتـابة؟
- في السنة الثانية من المرحلة الإعدادية كتبت قصيدة للنشرة الجدارية عن فلاح فقير يأتي بزوجته المريضة الى المدينة، ولم يكن عند هذا الفلاح أي شيء من النقود، لذا فلقد حمل الى الطبيب المعالج ديكا، وهو أغلى ما لديه، إلا أن الطبيب حينما علم بان الفلاح لا يملك نقودا طرد الثلاثة، الفلاح وزوجته الملريضة والديك. ( بعد سنوات يخرج يلماز فيلم ( القطيع) عن فلاح يأتي بزوجته المريضة الى المدينة.. لكن مع أحداث اكثر مأساوية - م ). القصة لم تنشر بدعوى أنها يسارية، برغم أنني في هذه الفترة لم أكن أعرف ماذا تعني اليسارية.
وفي العام 1953-1954 بدأت بكتابة المقالات والقصص القصيرة. فكنت أرسلها إلى الصحافة المحلية والمركزية. وفي منتصف العام 1954 أخذت مقالاتي وقصصي تظهر على صفحات الأعداد الخاصة ليوم الأحد في الصحف، وحتى نهاية هذا العام أخذت نتاجاتي تنشر في المجلات.
أهم قصة نُشرت لي حينها كانت تحت عنوان( الموت يدعوني)، تتحدث عن الحب المأساوي لاثنين من الفلاحين الفقراء، فالشاب لم يكن باستطاعته العمل وتأمين مستقبل العائلة فيهجر حبيبته التي تنتحر وتترك قصاصة من الورق كتبت له فيها( لماذا قتلتني، لقد أردتُ أن أعيش لكي أحبك)، وكذلك قصة (ليس ثمة من نهاية..للإهانات)، وهي تتحدث عن شخص يبحث عن عمل، ويتحمل في بحثه ما لا يحصى من الإهانات، ورغم ذلك فلم يحصل على عمل فيلقي بنفسه من الجسر الى الماء.. القصتان نشرتا العام 1956 في مجلة (أيتي أوفوكلار - الأفق الجيد ). ولكن الأكثر ضجيجا كانت قصتي ( الأسرار الثلاثة لأسباب عدم المساواة الاجتماعية) التي نُشرت في مجلة (البحوث الفنية - انوج - العدد 13)، هذه القصة أصبحت مرحلة في حياتي، حيث كان دويها وانعكاسها واضحا وبارزا طوال مسيرة حياتي اللاحقة. لذا فحينما جئت إلى استنبول العام 1957 كان لديَ أكثر من ثلاثين مقالة وقصة منشورة.. حينها منحني أصدقائي اول لقب ( القاص يلماز).
- هل بالإمكان، ولو باختصار، أن تحدثنا عن هذه القصة، لأنني لم أجد عدد المجلة التي نُشرت فية قط؟
- ولن تجده،لأن العدد لم يظهر إلى النور، إذ احتجزه الرقيب، وكل النسخ قصت ومرت تحت السكين. اما القصة فقد كانت عن اللامساواة الاجتماعية في البلاد.
فأحدهم يعمل والآخر يجني ثمار عمله. الأول يعيش في البؤس كما يعيش الانسان البدائي والثاني يحصل على الشهادة العالية والضمان الصحي وضمانات الحياة الأخرى وهو يحاول أن يفرض سيطرته على الأول بواسطة ثلاثة عوامل: المال،
والدين، والتقاليد.. طبعا الأحداث مأخوذة من واقع الحياة، لكني أُتهمت حينها بالشيوعية.
- لقد قرأت رواياتك، والكثير من قصصك، وشاهدت أفلامك، وأعرف جيدا أرضيتك السياسية، لكن بودي ان أعرف ايضا الأشياء الأخرى التي أثرت في تكوين وعيك؟
- الحياة..؛ البيئة التي ترعرت وسطها. في طفولتي لم أشعر بانتمائي الكوردي، فحولي كانوا يتحدثون بالتركية. أعيدها هنا وأكرر، بأنني كنتُ أتحدث لغتي الأم، لغتي الكوردية، بشكل سيء. فلقد كان العداء بين السكان الأتراك والأكراد، أو قل النظرة العدائية ضد الكورد والقوميات الأخرى واضحة للعيان.. وهذا الوضع فجر لديَ مشاعر المحبة ازاء المهاجرين.
أثناء لعبي مع أبناء الأغنياء، وأنا صغير، فهمتُ ماذا يعني التفاوت الطبقي. أمي كانت تعمل صيفا في الأرض مع أبي، وفي الشتاء كانت تعمل كخادمة في بيوت الأغنياء، وكانت تحمل معها بقايا الطعام الذي لم يتلف بعد. ولكن مع مرور الأيام كنت أدرك بأن هذا الوضع مهين..؛ فكنت أصارع شعور الذل في أعماقي.
شكليا، العلاقة بين الاقطاعي والفلاح مبنية على أسس ديمقراطية، فالفلاح يشرب القهوة وكذلك الاقطاعي، وقانونيا انهما متساويان بالكامل في الحقوق الاجتماعية، لكن الاضطهاد والاستغلال لا يتأثران بهذا.
أبي كان يحلم دائما في أن أواصل تعليمي، كان يقول:( اذهب الى المدرسة يابني وتعلم كي لا تصبح عبدا مثلما صرنا نحن)، لكنه لم يفهم بأنه في المجتمع البرجوازي يمكن أن تصبح عبدًا حتى وأن كنت متعلما.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن