قصة بقلم: سوسن البياتي
رن جرس منبه الهاتف النقال في ساعات الفجر الاولى، ياالهي بالكاد اغمضت عيني، كيف جاء الصبح مهرولا مسرعا بهذا الشكل .
لاباس سارتدي ملابسي بسرعة لاكون جاهزة ليوم مليء بالعمل كما كل يوم.. انها المدرسة، هناك ست حصص بانتظاري علاوة على مناوبات مراقبة الفرص، اعانني الله على هذا اليوم... عند انتهاء المدرسة علي الذهاب لاعطاء الدروس في معاهد التقوية، بعدها علي الذهاب الى شركة الانتاج لتدريب الاطفال على الاناشيد الهادفة، .. لكن اليوم سنذهب لزيارة زميلتنا ريم لقد انجبت مولودها الرابع.
اتفقنا انا والمدرسات على الذهاب بعد الدوام الى بيتها لمباركتها وعمل الواجب . طرقنا الباب، دخلت المدرسات الواحدة تلو الاخرى، جاء دوري، فجأة عصفت بذهني مسالة منعتني من الدخول فاعتذرت وقررت التراجع من عند بوابة المنزل.
تذكرت جوربي المثقوب، كيف لمدرسة مهندمة جميلة مثلي ان ترتدي جوربا مثقوبا، ساكون هدفا لسخرية الجميع فاعتذرت واخبرتهم بان هناك خطبا ما في البيت اضطرني للتراجع واني تلقيت اتصالا هاتفيا من زوجي يدعوني للعودة، حاولت ان اخرج من المازق التافه الذي كان بالامكان ان اقع فيه، المهم حافظت على ماء وجهي.
حقيبتي ملئى بالنقود، لكن جميعها ليست لي فبعضها للايجار وبعضها للمصاريف والالتزامات المنزلية وبعضها للرحلة الاسبوعية التي لابد منها واخرى للمصاريف المدرسية وبعضها ادخره في الجمعية التي اشتركت بها . يجب ان يكون لي في النهاية بيت تمليك. كيف يقولون ان يدا واحدة لن تصفق، ساثبت للجميع ان يدي صفقت للزمن وحدها، وان كان زوجي لايعمل ولم يجد فرصة جيدة. بجب ان استثمر سنين شبابي وامسح بمنديل الامل كل تعب واوجاع السنين. في النهاية ساقطف ثمار السعادة واضعها على مائدة الفجر الابدي وارمي الذكريات المهترية في سلة المهملات.
توالت السنون وانا في تعب وكد والثقوب لاتبارح جوربي، انه سري الذي احتفظ به لنفسي، فبثمنه اجلب الاشياء التي يحبها اولادي، وبثمن قنينة الماء اجلب قطعة حلوى ترقص لها عين صغيرتي. اتى اليوم المعهود والذي تفجر. فيه مخزون احلامي، صار عندي منزل خاص بي .
تحققت احلامي، انه بيت العمر . خارطة اركانه صممتها منذ زمن بعيد في ذاكرتي البكر والتي تزداد رتوشا وفخامة وجمالا كلما تقدم بي العمر وكلما ازدادت الحداثة الهندسية والعمرانية.
ذهل كل من دخل المنزل واعجب بتصميمه وجاذبيته وتناسق الوانه. كنت اقوم بنفسي بالرسم والتلوين مع مهندس الديكور حتى احصل في النهاية على عمل مخالف للمعهود. احذف واضيف بالشكل الذي يشبع رغبتي الفنية وشغفي بالرسم والالوان، انه بيتي يكتمل باجمل اثاث ولوحات وديكورات، وضعت فيه كل ما ادخرت طيلة السنوات الماضية .
الحمد لله الذي اتم النعم، اعطاني اكثر مما استحق، ساكتفي بعمل واحد بدلا من الاعمال الكثيرة التي كنت ازاولها، سيكون لي وقت اكثر للاهتمام بنفسي وبعائلتي، وربما سآتي بمدبرة منزل تساعدني في الشؤون المنزلية. ماأجملها الايام عندما تبتسم لاحدهم وتملأ كؤوس عمره سعادة وعطرا، أصبحت الحياة اجمل (وداعا ايها الجورب المثقوب).
لوحت من جديد الحروب اللعينة، فبعد شهرين من انتقالي للبيت الجديد، استقر صاروخ ماكر في غرفة الاولاد وحطم الجانب الايسر من البيت، تساقطت علينا اللوحات والسقوف الثانوية كاوراق صفراء عصفت بها ريح الخريف، وكان الارض والسماء غضبت فملأت اعيننا وافواهنا غبارا ودخانا. كنا نختبىء في غرفة الجلوس التي تتوسط المنزل في حالة من الهلع والخوف. لم نذق طعم الماء والطعام منذ سبعة ايام ،نردد الشهادتين في كل لحظة.
فما وجدنا انفسنا إلا ونحن نهرول خارج المنزل الذي فتحنا ابوابه بصعوبه تاركين حطام الدنيا وزخرفها والمقتنيات والذكريات وراء ظهورنا. البيت، المركبة، المحال، كل شيء فداء لسلامة ابنائي، يجب ان أصل بهم انا وزوجي بسلام الى العراقز
بعد ساعات طويلة من التعب والجزع والسير على الاقدام، بين ركام المنازل والجثث والحطام، اختفت المركبات من الطرقات واصبحنا هائمين على وجوهنا بين مطرقة الطائرات ومدافع الجيش السوري وبين سندان ضربات اسلحة جبهة النصرة حيث كانت مدينتنا واقعة تحت سيطرتها انذاك ، وصلنا مطار دمشق بشق الأنفس . تنفسنا الصعداء فبعد كل ضيق فرج . سوف نركب الطائرة.
أنا الان على ارض الوطن، اول شيء لامسني عند خروجي من الطائرة هو نسيم الهواء الساخن جدا مع ان الوقت كان فجرا، مازلت اذكره وكانه يلفح بشرتي الان . لاباس انها ساعات الطمانينة التي لاتقدر بثمن . انا الان في احضان الام، انا في احضان الوطن . فتحت عيني التي اغمضها طول السهاد والتعب طيلة الايام الماضية، رايت تلك الماسات المتلألئة فوق راسي وكانها قطع نقدية فضية ترقص للملاز
وااااه.. إنها ثقوب الخيمة التي تضمنا ترسل خيوطا من نور السماء.
إنها ثقوب الخيمة تبتسم لثقوب جورابي المقدس.
سوسن البياتي
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن