زاكروس - أربيل
في روايته الجديدة "شفرة العلمين"، يقدم لنا الكاتب والروائي المصري مدحت نافع حكاية مهمة عن فترة من أحلكِ فترات التاريخ الإنسانيِّ، ألا وهي فترة الحرب العالمية الثانية التي رسمت بنهايتها عالمًا جديدًا وحدودًا جديدة لم تكن موجودة من قبل. صدرت الرواية مؤخرًا عن دار الشروق المصرية بعدد من الصفحات يصل إلى 296 صفحة من القطع المتوسط.
"شفرة العلمين" تسرد بين صفحاتها حكاية يوميات حرب يعثر عليها آرثر، أستاذ التاريخ في جامعة كامبريدج البريطانية. يوميات كتبها قائد عسكري راحل شارك في معركة العلمين التي دارت رحاها فوق رمال العلمين بين القوات البريطانية والقوات الألمانية والإيطالية.
تتضمن اليوميات الكثير من الأسرارِ التي لم يتم الكشف عنها حتى بعد مرور سنوات طويلة على انتهاء الحرب بين الأطراف المتناحرة. أسرارٌ ربما ستغير الكثير من الحقائق والقناعات، إذ سرعان ما ستتكشف أمام آرثر حقائق تُميطُ اللثام أخيرًا عن حكايات غريبة وشبكة تجسس عالمية ومؤامرات دولية ضحاياها عالم كيميائيٌّ مصريٌّ وفتاة إيطالية.
مدحت نافع كاتب وروائي وخبير اقتصادي مصري حاصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد. صدر له عدة كتب ودراسات وأوراق بحثية ومقالات، منها رواية "شعيب" عام 2016، بالإضافة إلى كتابته للمقالات في صحيفة الشروق المصرية منذ العام 2015.
في هذا الحوار الذي أجريناه مع مؤلف رواية "شفرة العلمين"، مدحت نافع، نتعرف على أهم العوامل التي دفعته لكتابةِ الرواية، ومدى أهمية إعادة تصور التاريخ وفق منظور روائي، وأبرز التحولات التي مر بها كاتبًا وروائيًا...
يؤكد مدحت نافع أن التاريخ مُلهم لكل أشكال الحكي والسرد، فالقصصُ نابعةٌ من سالف الأحداث والآثار، حتى ما كان استشرافًا للمستقبل، لا يمكن أن تنضج أحداثه أو تنطبع في ضمير القارئ إلا بمدد ووحي من التاريخ.
وأَضافَ أنه "لا يمكن أن تنضج الأحداثُ أو تنطبع في ضمير القارئ إلا بمدد ووحي من التاريخ".
وأكد أن "الحقبة الزمنية التي نُسجتْ حولها رواية "شفرة العلمين" كانت حقبة غنية بالتحولات، مؤسسة لعالمٍ جديد، ونظام عالمي ما زلنا نعيش فصوله. وإذا كانت تلك الحرب قد حسمها عدد قليل من المعارك، فإن معركة العلمين كانت أهمها، وأكثرها غموضًا، ومن خيط واحد لهذا الغموض يمكن للمؤلف أن ينسج عالمًا كاملًا من الأحداث والتشابكات والشخوص".
قبل دخوله عالم الرواية، كان مدحت نافع يكتب الشعر والزجل والمقال الصحفي، إلا أن أولى محاولاته لدخول عالم الرواية كانت من خلال رواية "شعيب"، التي صدرت عام 2017.
ويقولُ إن "رواية "شعيب"، ولدى نشرها عام 2017، تلقتها الأوساط الأدبية بما فاق توقعي من ترحيب، فانتشرت في معارض الكتاب وعلى المنصات.. واتسعت لها أرفف مكتبات مرموقة مثل مكتبة جامعة برينستون.. وقد كانت موضوعًا لعدد من المقالات النقدية منها ما كان للأستاذ يوسف القعيد في جريدة الأهرام بعنوان "بيضة الديك"، وكان يعبّر في هذا المقال عن توجسه من أن تكون تلك الرواية هي بيضة الديك لصاحبها، الذي ربما انشغل عن الكتابة بعالمهِ كدأبِ عدد من الكُتابِ الذين اقتحموا عالم الرواية والقصة بشكل استثنائي.. ومَنطُ توجسه هو أنه يعلم أني كنت أعمل حينها رئيسًا لشركة قابضة وأقوم بالتدريس في الجامعة وأكتب عددًا من المقالات.. وربما كان يتصورُ أن عالم الاقتصادي نادرًا ما يتقاطع وعالم الروائي. ولذا كنت حريصًا على إهدائه أول نسخة تصلني من "شفرة العلمين" فتهللَ ووعد بسرعة قراءتها والكتابة عنها".
ويرى أن أبرز "التحولات التي مر بها ككاتب كان الانتقال من سيطرة التجربة الذاتية إلى آفاق أوسع".
ويستدركُ بالقول إنه سعى إلى "تجاوز محدودية الرؤية الشخصية والانفتاح على عوالم أكثر تنوعًا. ومن التغيرات اللافتة في أسلوبي الكتابي كان التحدي المتمثل في التغلب على أسلوب المقال الصحفي لصالح أسلوب الرواية، الذي يعتمد على التفاصيل والإطناب بدلًا من بلاغة الإيجاز".
ويؤكدُ في الوقت نفسه أنه "لا يزال في مرحلة التوازن بين الأسلوبين، فإن شغفي بالصورة والسرد البصري ساعدني في نسج مشاهد تمنح القارئ تجربة غامرةً، دون أن أثقل عليه بتفاصيل باتت مألوفة في الأعمال الروائية التقليدية".
إن كتابة رواية تتضمن أحداثًا تاريخية حقيقيةً هي بحاجة إلى خلق تناغم ما بين الأفكار والشخصيات الخيالية والواقعية. وفي حالة رواية "شفرة العلمين"، نرى أن التناغم بين الأفكار والشخصيات في شفرة العلمين جاء من المزج بين الخيال والواقع بأسلوب يجعل القارئ متفاعلًا مع الأحداث دون أن يفقد شعور الاندماج"، حسب قول المؤلف.
ويضيفُ: "حتى الشخصيات الحقيقية تخضع لخيال الكاتب، إذ نرسم صورًا ونخلق قوالب قد تختلف عن الواقع، لأن أحدًا لا يمكنه الادعاء بمعرفة إنسان معرفة يقينية. دور الروائي يكمن في وضع الشخصيات ضمن سياق الأحداث، وإكسابها طابعًا إنسانيًا عبر المشاعر والأحاديث، مع الحرص على السمات الغالبة التي يعرفها الناس عن الشخصيات التاريخية، مما يعزز التحام القارئ بالرواية ويجعل التاريخ جزءًا أصيلًا منها".
وحول رأيه من إعادة رسم وكتابة التاريخ وفق المنظور الأدبيِّ، يرى أن "إعادة رسم التاريخ من منظور أدبي ليست ضرورة بقدر ما هي فرصة، حيث يمكن للكاتب أن يعيد تأويل الأحداث بأسلوب يتجاوز الحقائق الجامدة ليخلق سردًا أكثر عمقًا وتأثيرًا".
ويؤكدُ أنه "وفي رواية شفرة العلمين لا يسعى إلى تغيير التاريخ كما يفعل بعض المخرجين السينمائيين مثل تارانتينو، بل أراه أرضًا خصبة يمكن للروائي أن يغرس فيها نبتة صالحة تعيد بناء اللحظة التاريخية بأسلوب يجعلها أكثر حيوية وإنسانية. في تقديري، من الضروري الحفاظ على سلامة الأحداث التاريخية الكبرى لضمان التقارب مع الحقيقة، لكن التفاصيل والخفايا والأسباب هي مضمار الكاتب، حيث يمكنه استنطاق اللحظة التاريخية، كشف أسرارها، أو حتى إضفاء طبقات جديدة عليها لم تكن موجودة أصلًا".
وأشار أن "المزج بين التاريخي والخيالي كانَ سببًا في بعض المواقف الطريفة، حيث اتصل بي أحد النقاد قبل كتابة مقاله عن "شفرة العلمين" في جريدة المصري اليوم ليسأل عن مصادر بعض الأحداث الواردة في الرواية، ولم يخف دهشته حين اكتشف أنها مزيج متكامل بين الواقع والخيال، ربما لأنني حرصت على تضمين تفاصيل دقيقة لمعركة العلمين كما وردت في مصادر التوثيق، مما جعل الرواية تبدو وكأنها سجل تاريخي حقيقي في بعض مواضعها".
وعن نظرته حول الجوائز الأدبية وما يثار حولها من جدل عن أهمية الجوائز والأعمال المرشحة من قبل اللجان المختصة يقولُ إن "الجوائز الأدبية في مخيلتي مطية العمل الأدبي لانتشار أوسع بين القُرّاءِ، فحيثما تهيأَ للعمل الأدبي نوع من الإشارات (signaling) الإيجابية (بكل تأكيد) ساعد ذلك على خروج العمل من محبسه في المكتبات العامة إلى مكتبات القُرّاءِ، وربما إلى منصات ووسائط أخرى لتجسيد تلك الأعمال".
واستبعدَ في الوقت نفسه أن "يكون بعضها مُسيَّسًا وبعضها مُوَجَّهًا، لكن الذائقة العامة تفرض العمل الجيد ولو بعد حين".
وعن التوازن المطلوب بين الأحداث التاريخية والخيال الأدبي لكل عمل أدبي تغوص أحداثه في التاريخ يرى أن "التوازن بين الأحداث التاريخية والخيال الأدبي ينبع من الالتزام بالخطوط العريضة للتاريخ".
وأشارَ أنه "كروائي يسعى إلى الحفاظ على دقة الوقائع الأساسية دون المساس بجوهرها، في حين أتحرك بحذر بين المساحات غير الموثقة، مما يسمح لي بنسج تفاصيل جديدة تضفي طابعًا إنسانيًا على الرواية. أما الفراغات التي تملأ صور التاريخ في مخيلتي، فهي مساحة خصبة لخلق عوالم سردية متشابكة، حيث أتمكن من استنطاق اللحظة التاريخية، لا باعتبارها مجرد سرد للأحداث، بل كواقعٍ حي يتفاعل فيه الأبطال مع التغيرات الزمنية والسياسية. هذا النهج يمنح الرواية مزيجًا متكاملًا بين التاريخ والخيال، بحيث يشعر القارئ وكأنه يعايش الأحداث دون أن يشعر بقطيعة بين الحقيقة والتأويل الأدبي".
لو أُتيحَ للكاتب مدحت نافع إعادة كتابة التاريخ أي لحظة سيختار؟ وهنا يؤكد أنه "ربما أعاد كتابة أحداث "الفتنة الكبرى التي انقسم حولها المسلمون منذ لحظة مبكرة في تاريخ الدعوة إلى يومنا هذا وربما إلى يوم تقوم الساعة".
وأَضافَ أنه "لو التزمت مسلكي المحافظ في المزج بين التاريخ والخيال، ما كنت لأختار تلك اللحظة لأنني لن أغير ما آلت إليه أحداثها وتداعياتها.. لكن لو كان لي مساحة أكبر من التغيير، لحقنت بقلمي دماءً كثيرة أُريقت على مذبح تلك الفتنة".
إعداد: رامي فارس
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن