أ ف ب
في حيّ بوسط بغداد، تعبق رائحة الرطوبة والغبار في ناد اجتماعي ترفيهي أغلقته السلطات "فقط لأنه يقدّم الكحول"، في إطار حملة تضيّق فيها السلطات الخناق على مستهلكي المشروبات الروحية في العراق.
ويُعدّ استهلاك الكحول موضوعا جدليا في البلد الذي يعدّ أكثر من 45 مليون شخص من مختلف الطوائف والإثنيات. ولطالما أثار حظره استنكارا خصوصا من قبل المسيحيين والإيزيديين في بلد يُعتبر مجتمعه محافظا لكن شرائح كبيرة منه تشرب الكحول وتشتريها من متاجر محددة.
وفي منتصف تشرين الثاني، تبلّغت نواد اجتماعية تعمل منذ عقود في بغداد بكتاب رسمي يحظر تقديم الكحول للزبائن، بحجّة أنها مسجّلة كمنظمات غير حكومية.
وجاء هذا الإجراء ضمن سلسلة قرارات اتخذتها السلطات في العامين الأخيرين، تثير مخاوف من التضييق باسم صون الأخلاق في العراق حيث الأغلبية البرلمانية تميل إلى سياسات محافظة.
وفي شباط أُغلق ناد كان يستضيف جولات لعبة البينغو وأمسيات غنائية "فقط لأننا نقدم الكحول"، حسبما يقول مستثمر مسيحي فيه طلب من وكالة فرانس برس عدم الكشف عن هويته.
وأُغلقت عشرات القاعات المماثلة، ما دفع بأصحابها بعضهم من الإيزيديين إلى التظاهر بانتظام في وسط بغداد.
ويرى الرجل الأربعيني أن هذه الإجراءات "قاسية على الأقليات الموجودة في العراق"، مضيفا "تواصلنا مع كل الجهات في الدولة لكن لم يسمعنا أحد".
ويشير إلى أن ناديه كان يستقبل نحو 300 زبون كل ليلة و"لم يكن يتسبب بأي إزعاج لأي كان" في محيطه المكتظّ اليوم بالقوات الأمنية.
وبعدما هجر الزبائن هذا النادي تاركين وراءهم ورق لعب وطاولات طعام وأكوابا جفّت محتوياتها، بقي موظف واحد فقط من أصل عشرات آخرين ليحرس المكان.
أمّا الباقون "فمنهم من باع بيته أو سيارته لسداد ديونه".
وفي 2016، صوت مجلس النواب العراقي على قانون واردات البلديات الذي ينصّ بمادته رقم 14 على "حظر استيراد وتصنيع وبيع المشروبات الكحولية بكافة أنواعها". لكنه لم يدخل حيز التنفيذ إلّا مطلع 2023.
مذاك، زادت السلطات الرسوم الجمركية على الكحول المستوردة. ويرى بعض معارضي الحظر أن هذا الإجراء سيساهم في زيادة استهلاك المخدّرات.
ورغم دخول القانون حيز التنفيذ، لا يزال شراء الكحول بحريّة ممكنا في إقليم كوردستان وكذلك في السوق الحرة في مطار بغداد الدولي.
ويشيع في العاصمة البيع عبر خدمات التوصيل وعبر نوافذ متاجر أرغمتها السلطات على الإغلاق بالكامل.
وفي متجر يبيع الكحول عبر نافذة صغيرة، يقول موظف طلب عدم تسميته "إنّنا نلعب لعبة القطّ والفأر مع السلطات".
فمنذ فتح المحل ظهرا حتى إغلاقه قرابة منتصف الليل، يفتح أحد الموظفين الثلاثة نافذة تطلّ على الشارع لكي يعلم المارّة أن البيع ممكن.
لكن الشرط الأساسي لنجاح العملية هو أن يبقى الموظف المسؤول عن النافذة متيقظا لكي يُغلقها عند مرور دورية أمنية.
ويتابع الشاب الإيزيدي "المجتمع منافق لأن المسؤولين الحكوميين يغلقون متاجرنا لكنهم نفسهم يأتون لشراء الكحول مرتدين لباس مدنية".
وعلى مسافة أمتار قليلة، يوجد ناد اجتماعي كان يعتمد على عشرات آلاف المنتسبين للاستمرار وكثر منهم "أجانب ومسيحيون وأيزيديون انتموا إلى النادي لأنه يضمّ حانة" بحسب مسؤول فيه.
ويقول من مكتبه المطلّ على مطاعم النادي المقفرة "غداة صدور قرار (الحظر) وانتشار النبأ على وسائل التواصل الاجتماعي، لم يعد لدينا أي زبون".
ويعتبر أن هذا القرار "سببُه سياسي" وهدفه "صرف انتباه الناس عن القضايا المهمة مثل قضايا الفساد" المستشري في العراق.
وليست هذه المرة الأولى التي يثير فيها ملف الكحول جدلا في العراق. ففي السنوات المنصرمة، قامت مجموعات مسلّحة بمهاجمة وتفجير متاجر لبيع الكحول وهي محلات يديرها عادة مسيحيون وأيزيديون.
وفي أيلول، أوضح المتحدث باسم وزارة الداخلية العميد مقداد ميري لقناة "الأولى" التلفزيونية أن السلطات تقوم بغلق "حانات وصالات قمار" تراها "بؤرا للجريمة وللعصابات والمجرمين وتجّار الأعضاء البشرية والقَتَلة".
وترى الباحثة في شؤون العراق في منظمة العفو الدولية رازاو صالحي أن "سياسات الحظر لطالما أثبتت عدم فعالية في دول عدة في حماية الناس من أضرار المخدرات والكحول أو الحدّ من آثارها المجتمعية" لا بل "غالبا ما تغذي العنف والأسواق غير المشروعة والانتهاكات الحقوقية".
وتضيف "من غير الواضح كيف يمكن لحظر الكحول بمفرده أن يعالج مشكلة الاتجار بالبشر الخطيرة إذا لم تتخذ السلطات خطوات ملموسة لمنعها".
ومن بين السياسيين المعارضين لهذا الحظر النائب الإيزيدي محما خليل (58 عاما) الذي تقدّم مع ثلاثة أشخاص آخرين بشكوى ضدّ دستورية المادة 14 في قانون واردات البلديات. غير أن القضاء أصدر حكما أوليا بردّ الدعوى.
وينوّه إلى أن هذا القانون "سبّب إرباكا اقتصاديا" إذ أثّر على ما "بين 150 و200 ألف عراقي يمارسون حرفهم المتعلقة" باستيراد وتصنيع وبيع الكحول.
وبلغت الخسائر المادية لدى المسيحيين والإيزيديين العاملين في هذا المجال "15 مليار دينار" شهريا (11,4 مليون دولار تقريبا) في الأشهر الخمسة الأخيرة وفق قوله.
ويقول إن "كبار أصحاب رؤوس الأموال من الإيزيديين والمسيحيين المستقرين في بغداد منذ الستينات يفكّرون الآن بالمغادرة بسبب تعطّل مصالحهم وبالهجرة إلى الخارج أو إلى إقليم كوردستان".
ويتابع "لنا كإيزيديين مع المسيحيين الحق الدستوري بممارسة عاداتنا وبيع واستيراد المشروب وتناوله".
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن