زاكروس – أربيل
أخذ الأب المسيحي ميخائيل نجيب، أسقف أبرشية الموصل الكلدانية، يعمل ليل نهار على إكمال تصوير ما يمكن تصويره من مخطوطات قديمة، للاحتفاظ بنسخ رقمية منها.
كان الأب ميخائيل قد انتقل من مدينة الموصل إلى هذه البلدة في عام 2008، بعد عدة حوادث قتل تعرض لها رجال دين مسيحيون على أيدي جماعات سلفية ارهابية في المدينة.
وعندما وصل لأحد الأديرة في هذه البلدة، تابع ما بدأ العمل عليه في الموصل على صعيد تصوير آلاف المخطوطات القديمة التي عثر عليها في أديرة الموصل، وكنائس وبيوت قره قوش، وهو ما سمح له بتكوين واحدة من أكبر المكتبات الرقمية القديمة في العراق والشرق الأوسط.
بعد خروج تنظيم داعش الارهابي من البلدة عام 2016، عكف الأب ميخائيل على تدوين ما عاشته البلدة من أحداث قبل وبعد داعش ليصدر كتاباً بالفرنسية بعنوان (إنقاذ فكر وبشر.. شاهد عيان عن زمن داعش في سهل نينوى) وترجم مؤخراً للعربية عن دار نجم الثقافية ترجمة الأب نويل فرمان.
وعلى الرغم من أن الكتاب مخصص مثلما يظهر من عنوانه للحديث عن حياة البلدة بعد سيطرة داعش عليها، لكن الأب ميخائيل قدم لنا على هامش هذه الشهادة، معلومات قيمة تتعلق بالمكتبة وكيف تشكلت، بالإضافة إلى ذكره لبعض التفاصيل المتعلقة بمحتواها، ولذلك يشكل الاطلاع على هذه الشهادة فرصة للتعرف على هذه المكتبة النادرة.
يذكر الأب ميخائيل، أن "شغفه بالنصوص القديمة يعود إلى أواخر عام 1980، وبينما وهو يعمل على ترقيم ورصد مكتبة دير الموصل، هالته الفوضى التي رآها، إذ عثر على مخطوطات تعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي، ومخطوطات ألفية التاريخ، وضعت بشكل فوضوي إلى جانب كتب حديثة".
كما عثر على مخطوطات أخرى مفقودة، أو بعدد محدود في العالم، غلافها من جلد الغزال الشاموا، وبعضها نصوص لاتينية ترتقي إلى القرن التاسع الميلادي، تحكي سيرة حياة نبي الله موسى.
وعندما أخذ الأب يبحث أكثر في تاريخ هذه المكتبة ومن زارها، اكتشف شيئاً جديداً، وهو وجود بطاقات من الورق المقوى يعود أقدمها إلى عام 1870، يتم وضعها في خانة، بدلاً من الكتاب المستعار، يؤشر عليها: اسم الكتاب، تاريخ خروجه وتاريخ إعادته. وقد جد أن هذه البطاقات تشكل في الواقع شهادة رائعة، لأنها ترصد نوعاً ما مسيرة تداول الكتاب: من قرأه؟ في أي وقت، ومن خلالها يمكن الحصول على تصور عن المسار الفكري للرهبان، وما كان يدور في أروقة الدير من نقاشات. وهكذا بسبب هذه البطاقات استطاع معرفة أو تفسير كيف اختفت العشرات من المخطوطات القديمة.
وعلى إثر هذه الحادثة قرر عدم إتاحة الكتب القديمة للاستعارة التلقائية، كما قرر العمل على نسخ بعض المخطوطات القديمة صفحة صفحة باليد، خاصة وأن الحصول على آلة تصوير لم يكن بالأمر السهل آنذاك خوفا من الأسئلة الأمنية.
وجاء ما يشبه المصادفة عندما حدث ذلك اللقاء المفصلي: راهب أمريكي واسمه كولومبا ستيوارت، زوده بجهاز تصوير رقمي، وأخذ يعطيه نصائح بخصوص تصوير المخطوطات وزاوية التصوير، فهو وريث الرهبانية التي تعود إلى القرون الوسطى، والتي نذر رهبانها أنفسهم لخدمة الخط والمخطوطات.
التزم الأب ميخائيل بهذه النصائح المتعلقة بالتصوير، بالشكل الذي يمكن الباحثين من دراسة خامة الورق والأحبار المستخدمة. وبمساعدة عدد من الشبان، استطاعوا تحويل أكثر من 8000 مخطوطة إلى النظام الرقمي (مليون صفحة تقريبا). وتم حفظ نسخة من هذه المخطوطات الرقمية في العراق، وأخرى لدى الرهبان البنيدكتيين في أمريكا.
أثناء هروب أهالي قره قوش جراء قدوم داعش الارهابي تمكن الأب ميخائيل من حمل مئات المخطوطات في سيارته، في حين ظلت المئات الأخرى منها في الكنيسة، وأحرقت لاحقا على يد «داعش». واستطاع لاحقاً حفظ هذه المخطوطات في أحد البيوت في مدينة أربيل.
وفي عام 2021 اتخذ الأساقفة الكلدان قراراً بتأسيس متحف (مركز توثيق المخطوطات الرقمية) في كنيسة المشرق الآشورية في بلدة عنكاوا في أربيل، ليضمن حفظ وترميم هذه المخطوطات، وغيرها من المخطوطات المسيحية القديمة الأخرى.
محتوى مخطوطات قره قوش
لا يقتصر الأب ميخائيل في شهادته على سرد تفاصيل عن طريقة تكوين هذه المكتبة، بل ترك لنا أيضا هوامش مهمة، عن محتواها. يذكر مثلا أنه من بين المخطوطات، هناك مخطوطة عثر عليها تعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي، وكان قد وجدها في قن دجاج لإحدى المزارع، وقد تراكمت المئات من فضلات الدجاج فوقها، حتى إنه أمضى أسابيع وهو يفكك صفحاتها، تتضمن المجموعة مخطوطة بالحبر البني، للفيلسوف ابن رشد من القرن الثالث عشر الميلادي، في شرحه لكتاب القانون في الطب لابن سينا في القرن الحادي عشر الميلادي. وهناك مخطوطات لنصوص إنجيلية، وكتاب ليتورجي من القرن الثامن عشر الميلادي ، تنتشر على صفحاته حروف مزخرفة، ونمنمات مرسومة بدقة متناهية. والكتاب مخطوط بالآرامية على عمودين، في كل صفحة، يتضمن نصوصا من العهد الجديد، كما ضمت المكتبة العديد من الرحلات التي دونها الرهبان الدومينيكان، الذين جاؤوا من أوروبا، خاصة فرنسا، وكتبوا في تلك الكراريس عن أحاسيسهم وهم يسيرون على أرضنا. منهم راهب يدعى فرا دومينغو لانزا، الذي يروي تفاصيل عن رحلته من روما إلى الموصل عام 1760، أو الأب هياسنت بيسون، الذي يتحدث عن نقل مطبعة حديثة إلى الموصل عام 1860 انطلاقا من مرسيليا. وهناك العديد من الرحلات الأخرى التي تتناول قصة دومينكان قدموا في عام 1881، واجتازوا الصحراء السورية على متن الجمال، وكتبوا في دفاترهم ملاحظات أنثروبولوجية، يصفون فيها العادات والأعراف والحياة اليومية لسكان بلاد ما بين النهرين. وهناك صور لطلاب مدارس كان يديرها الدومينيكان أيضا، وصور المونسنيور تبوني، الذي زار المنطقة في نهاية القرن التاسع عشر في أعقاب مجازر حلب ودير الزور تجاه الكلدان والسريان.
من القصص الطريفة التي يذكرها ميخائيل عن طريقة جمع المكتبة، أنه في أحد الأيام علم بأن سيدة في قره قوش، تحتفظ بعدة صناديق من المخطوطات تعود لخالها، وأحد رجال الدين المسيحيين. وعندما زارها سائلاً عن المخطوطات اجابته "يا أبت، لقد جئت متأخرا جدا، كانت هذه الأشياء منتشرة في كل زوايا البيت، وكنت بحاجة إلى مساحة، فما كان مني إلا أن أحرقت كل شي". ومع ذلك، وفي وسط الرماد كانت هناك مخطوطة من القرن الخامس عشر، وقد نجح بتحويلها رقمياً.
عاد الأب ميخائيل إلى البلدة بعد خروج تنظيم «داعش» منها في عام 2016، ومما يذكره في شهادته عن صورة المدينة، التي دمرت بشكل كامل تقريبا، أنه وبينما كان يتمشى في الحديقة الصغيرة المحاذية لكنيسة مار كوركيس، التي تحولت إلى قطعة فحم كبيرة، فإذا به يعثر على صفحات من مخطوطة تعود للقرن الخامس عشر، بدت ممزقة ومهملة جراء الأمطار، ومتطايرة في مهب الريح. يكتب الأب هنا «تداهمني قشعريرة من الحزن والألم.. وأعزي نفسي بالتفكير، إني سبق وأن مسحتها ضوئيا، قبل بضع سنوات، وعليها فهي ليست ضائعة تماما. إنه نصر صغير متواضع يسخر، بعض الشي، من شر أولئك الحمقى» والذين لم يدمروا فقط أجزاء من مكتبة قره قوش الورقية، بل دمروا المكان أيضا، والبشر، وكل ذكرياتنا الجميلة.
المصدر/ صحيفة القدس العربي اللندنية
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن