زاكروس – القاهرة
على مساحة شاسعة يقبع قصر جميل ذو إطلالة مهيبة تحيطه حدائق خضراء مزينة بمختلف الأشجار والأزهار أنه قصر البارون أمبان في مدينة القاهرة.
هذا القصر الجميل والذي تحيطه الأشجار من كل جانب كان واحداً من أوائل القصور التي بنيت وبني معها عدد من الأحياء المشهورة حتى اليوم.
تاريخ هذا القصر يرتبط بمالكه الأصلي البارون البلجيكي أمبان، وكان عاشقا ملهما لتاريخ مصر وللآثار المصرية لدرجة اختار مصر محلا دائما لإقامته.
لهذا القصر العديد من الحكايات والقصص التي لطالما سحرت عشاق الأدب الخيالي وألهمت مخيلتهم لدرجة كبيرة.
وللوقوف على حقيقة هذا القصر وتاريخه الأصلي وأهم المراحل التاريخية التي شهدها القصر، كانت لي رحلة مخصصة لذلك الصرح الكبير برفقة عالم الآثار والمتخصص في التراث المصري الدكتور شريف شعبان ليحدثنا عن قصر البارون وما حصل فيه وما آل إليه بعد عقود طويلة من الإهمال...
مَن هو البارون إدوارد لويس جوزيف إمبان؟
كان البارون البلجيكي إدوارد لويس جوزيف إمبان أحد كبار رجال الاعمال وأصحاب المشاريع الهندسية والصناعية، ولم يقتصر نشاط البارون على المجالين الاقتصادي والهندسي فقط، بل امتد إلى مجالات السفر والترحال، فانطلق بأمواله إلى عدة بلدان مثل المكسيك والبرازيل والكونغو والهند ومصر. وما أن وصل إلى القاهرة في نهاية القرن التاسع عشر، بالتحديد بعد عدة سنوات من افتتاح قناة السويس، حتى وقع تحت سحر عشق مصر، واتخذ قراره بالبقاء فيها. وكتب في وصيته أن يدفن في أرضها حتى لو وافته المنية خارجها. وهو ما حدث بعد أن توفي في بلجيكا عام 1929م حتى تم تنفيذ وصيته بنقل جثمانه إلى كنيسة البازيليك في هيليوبوليس.
متى تم تأسيس قصر البارون؟
قبل أن نتحدث عن القصر لابد وأن نتحدث عن بتأسيس حي مصر الجديدة على يد البارون إمبان. فقد قام البارون بإقامة مشروع سكني جديد في صحراء القاهرة تحت اسم "هيليوبوليس" أو حي مصر الجديدة. وتطور هذا الحي ليكون أرقى أحياء القاهرة. واشترى البارون الفدان بجنيه واحد فقط لافتقار المنطقة إلى المرافق والمواصلات والخدمات، وحتى يستطيع البارون جذب الناس إلى ضاحيته الجديدة فكر في إنشاء خط مترو وكلف المهندس البلجيكي أندريه برشلو الذي كان يعمل في ذلك الوقت مع شركة مترو باريس بإنشاء خط مترو يربط الضاحية الجديدة بالقاهرة، كما بدأ في إقامة المنازل على الطراز البلجيكي الكلاسيكي بالإضافة إلى مساحات كبيرة تضم حدائق. وتحول مشروع حي مصر الجديدة إلى واحدة من أنجح التجارب العمرانية في أوائل القرن العشرين، حيث استطاع تحويل الصحراء إلى ضاحية نابضة بالحياة متكاملة الخدمات، تضم كل فئات الشعب وأطيافه. كما كانت مصر الجديدة بوتقة انصهر فيها العديد من الطُّرُز المعمارية الجديدة والمبتكرة، والتي دمجت الطراز الإسلامي مع الطراز الهندوسي والأوروبي. ومن روائع حي مصر الجديدة أنه يجمع بين أروقته طوائف الشعب بمختلف عقائده، فهو يضم الجوامع والكنائس مثل الكنيسة الإنجيلية بمصر الجديدة وكنيسة البازليك (مدفون بها البارون إمبان) ومعبد فيتالي مجار اليهودي.
ومع البدء في مشروع حي مصر الجديدة، قرر إنشاء البارون قصره الخاص بها عام 1906 وتم افتتاحه في عام 1911م بحضور السلطان حسين كامل سلطان مصر، وأقام البارون إمبان في القصر منذ ذلك الوقت. وأصبح قصر البارون إمبان منذ ذلك الحين وحتى الآن واحداً من روائع المعمار الذي يزين وجه القاهرة في قرنها العشرين. والمدهش في تصميم القصر أن البارون اختار تصميمه على طراز العمارة الهندوسية الأوروبية وأحضر من أجله المهندس الفرنسي ألكساندر مارسيل ونفذ تصميمه الذي كان معروضاً خلال معرض هندسي في باريس في 1905، فتميز القصر بتصميم داخلي على طراز العصور الوسطى الأوروبية وتصميم خارجي على طراز المعابد الهندوسية مثل معابد كمبوديا والهند وهو ما جعل تصميم القصر فريداً من نوعه على مستوى العالم كله.
كم تبلغ مساحة القصر بالمجمل؟ وما هو أهم ركن من أركان القصر؟
يقع القصر على مساحة 12.5 ألف متر. المساحة الداخلية للقصر صغيرة نسبياً فهو مكون من سبع حجرات موزعة على طابقين. الطابق الأول يضم صالة كبيرة وثلاث غرف إحداها للضيافة والثانية للمائدة أما الثالثة فخصصت للعب البلياردو، وعن طريق السلم الرخامي المزين بدرابزين محلى بتماثيل هندية صغيرة دقيقة الصنع يصعد إلى الطابق الثاني الذي يتكون من صالة كبيرة وأربع غرف نوم واسعة أرضياتها من الباركيه ولكل منها حمامها الخاص الذي تكسوه بلاطات من الفسيفساء ذات الألوان الزرقاء البرتقالية والحمراء في تشكيلات لونية متناسقة، ولكل غرفة شرفة خاصة محمولة على تماثيل الفيلة الهندية وغطيت أرضيتها بالفسيفساء الملونة وبها مقاعد ملتوية تحيط بها التماثيل من كل جانب. أما سطح القصر «البانوراما» أشبه بمنتزه استخدم في بعض الحفلات التي يقيمها البارون، وكان مكانه المفضل لتناول الشاي وقت الغروب، وجدران السطح عليها رسوم نباتية وحيوانية وكائنات خرافية، ويصعد إليه بواسطة سلم مصنوع من خشب الورد الفاخر. خصص البدروم (السرداب) للمطابخ وأماكن انتظار السيارات وحجرات الخدم والمغاسل الرخامية، ويتصل بقاعة المائدة عن طريق مصعد مصنوع من خشب الجوز. على الجانب الأيسر للقصر برج كبير كان يدور على قاعدة متحركة دورة كاملة كل ساعة ليتيح لمن يجلس به أن يشاهد ما حوله في جميع الاتجاهات، ويتألف من أربع طوابق يربطها سلم حلزوني تتحلى جوانبه الخشبية بالرخام وعلى درابزينه نقوش من الصفائح البرونزية مزينة بتماثيل هندية دقيقة النحت. وحول القصر حديقة فناء بها زهور ونباتات.
ما هي أكثر مادة استخدمت في بناء وتزيين القصر؟
استخدم في بناء القصر المرمر والرخام الإيطالي والزجاج البلجيكي البلوري الذي يمكن من بداخل القصر أن يرى كل من في الخارج، ويتصدر مدخله تماثيل الفيلة، فيما ينتشر العاج داخل وخارج القصر، وترتفع النوافذ المصنوعة على الطراز العربي وتنخفض مع تماثيل هندية بوذية. وعلى شرفات أبوابه زخارف إغريقية دقيقة الصنع، كما يضم القصر مجموعة من التماثيل والتحف النادرة المصنوعة بدقة من معادن نفيسة، منها ما جلبه البارون من الهند مثل تماثيل بوذا والتنين الأسطوري، ومنها أوروبي الطراز المصنوع من الرخام الأبيض ذو ملامح يونانية ورومانية، بالإضافة إلى تماثيل لراقصات يؤدين حركات تشبه حركات راقصات الباليه.
ما حقيقة الأساطير التي حكيت عن القصر في العقد الأخير؟
بعد وفاة البارون اصبح القصر مكاناً مهجوراً وعانى من الإهمال الشديد فلم يدخله أحد سوى لتصوير الأفلام أو الأغاني، وانتشرت شائعات بوجود عفاريت تسكن وتحيط بالقصر وهي ما ذكرها حراس القصر بعد ما رأى بعضهم أضواء متحركة تظهر في الليل فقط. وفي عام 1982عام وجد عدد من سكان المنطقة دخاناً يخرج من أحد غرفات القصر الرئيسية وبعدها تحرك الدخان لشباك البرج الرئيسي للقصر، بعدها ظهر وهج نيران اشتعل وحده وانطفأ وحده!. وقد أثارت قصة العفاريت والأشباح العديد من الهواة في أن تكتب حواديت عن لعنة القصر. وفي عام 1997 استغله بعض الشباب بطريقة غير قانونية لإقامة حفلات صاخبة انتهت بقضية جنائية شغلت الرأي العام المصري عرفت بقضية عبدة الشيطان، حيث سكنت مثل تلك الجماعات القصر وأخذ أفرادها يرسمون على جدرانه علامات وكتابات طلسمية.
ومن القصص الخرافية المرتبطة بالقصر قصة الحجرة الغامضة التي كان البارون يحرم على أي شخص أن يدخلها وهي الحجرة الوردية أو حجرة الدم كما يطلق عليها بعض مروجي قصص الرعب وهي في بدروم القصر، وهي حجرة التي ادعي بأن فيها مدخل سري يوصل لسرداب طويل ممتد لكنيسة البازيليك، مكان مدفن البارون، وهنا جاءت تسميتها بحجرة الدم لأنه بعد وفاة البارون كانت المرايا بداخل الحجرة ملطخة بالدماء وفسر البعض وجود الدم بأنه دم الخفافيش التي ربما ارتطمت في المرايا واصيبت لكن هذا التفسير غير مقنع خصوصا أن الخفافيش معروف أنها تستشعر الاشياء عن طريق ذبذبات وتصادمها شبه مستحيل.
أما أسطورة البرج فهي تنص على أنه في يوم سقطت هيلانة أخته من على شرفة القصر في الوقت الذي كان فيه امبان جالساً في البرج الدوار، وحاول انه ينقذها لكنه لم يستطع فماتت، وظهرت اقاويل أن روحها كانت تزور القصر في كل حين كي تنتقم من أخيها الذي تأخر في إنقاذها، خصوصا ان تروس البرج الدوار وقفت من يوم وفاتها. وهناك من يذكر أنهم سمعوا أصوات هيلانة وهي تتشاجر مع اخيها حتى بعد وفاتها والبعض رجح ان البارون كان يحضر روحها كي يعتذر لها لكنها كانت رافضة الاعتذار. ولكن مع فحص البرج أثناء ترميمه تبين أنه كان ثابتاً منذ تأسيسه ولم يكن يدور على تروس كما ذكرت الأسطورة.
متى تمت إعادة تأهيل القصر أمام الزوار؟
في عام 2017 بدأت شركة المقاولون العرب المكلفة من الهيئة الهندسية للقوات المسلحة المصرية بالتعاون مع وزارة الآثار المصرية في أعمال ترميم القصر، حيث قدر للمشروع تكلفة بلغت 113.738 مليون جنيهاّ مصرياّ بتمويل حكومي، وساهمت بلجيكا بمنحة بلغت 16 مليون جنيه مصري، وانتهت أعمال الترميم حتى افتتح القصر في 29 يونيو 2020 في حفل افتتاح مهيب بحضور رئيس الجمهورية المصري ولفيف من كبار رجال الدولة.
ما هي أهم المراحل التاريخية التي شهدها القصر؟
انتقلت ملكية القصر إلى "جان" إبن البارون إمبان الوحيد حتى وفاته في عام 1946م فدفن بجوار والده في كنيسة البازيليك. وبعدها انتقلت ملكية القصر بعد ذلك إلى أحفاد البارون إمبان بعد وفاة والدهم. ومنذ ذاك الوقت تعرض القصر للإهمال لسنوات طويلة كما ذكرت، ثم بيع في عام 1954م بمحتوياته عبر مزاد علني إلى السوري محمد بهجت والسعودي محمد علي رضا وشقيقه علي علي رضا مقابل مبلغ قدره 160 ألف جنيه فقط. وفي عام 1993م انتبهت الدولة المصرية لمدى أهمية القصر المعمارية والآثرية فتم تسجيل القصر رسمياً كأثر تابع للمجلس الأعلى للآثار.
ولم تقف أهمية القصر عند الجانب المعماري والأثري فحسب، بل كان القصر شاهداً على جماليات حي مصر الجديدة وبات من أهم معالمها الفنية والسياحية، فظهر القصر عدة مرات في عدد من الأعمال الفنية كان منها: فيلم حبي الوحيد، إنتاج عام 1960، بطولة كمال الشناوي وعمر الشريف وفيلم الهارب، إنتاج عام 1974، بطولة شادية ومريم فخر الدين وكمال الشناوي وحسين فهمي وفيلم آسف على الإزعاج، إنتاج عام 2008، بطولة أحمد حلمي ومنة شلبي.
واستثماراً لقيمة القصر الأثرية والتاريخية والسياحية، قامت وزارة السياحة والآثار المصرية بعدة فعاليات ثقافية داخل القصر ومعارض فنية لتصوير قصر البارون وإبراز قيمته الجمالية والمعمارية. فقد قامت بعقد الموسم الثاني لصالون الأدب والآثار تحت عنوان أدب التشويق داخل قصر البارون بالتعاون مع السيدة الفاضلة د. بسمة سليم مدير قصر البارون، حيث قمت بعمل ندوة حول القصص الغرائبية في التاريخ، كما استضفت مجموعة من كبار كتاب الرعب المصريين مثل الكاتبة مروى جوهر وتحدثت حول تطور أدب التشويق والرعب في الأدب العربي والكاتب يحيى صفوت وحديث عن أعمال أدب التشويق العربية وتصديرها للغرب وكاتب الرعب المصري الشهير محمد عصمت في ندوة حول شخصية القاهرة في أدب التشويق حضرها أكثر من 150 شاب.
إعداد: راميار فارس
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن