زاكروس عربية - أربيل
ينطلق القاص والروائي والباحث العراقي خضير فليح الزيدي عبر كتابه الجديد، مملكة الضحك : رحلة من باب المعظم إلى مستودع الهههاي، الصادر عن دار سطور، نحو عالم يجمع الإنسان المسحوق والمشرد والشحاذ والشاذ والهارب من الخدمة العسكرية والهارب من مدينته بحثا ًعن فرص عمل في العاصمة، عالم من لفظتهم الحياة كالنواة لتلقي بهم في أحياء شعبية ضاربة جذورها في القدم، أحياء كانت في يوم ما محل لقاء وإعجاب السياح الأجانب لما تختزنه ذاكرتها العتيقة من صور تاريخية وفنية كانت ايقونة للتراث البغدادي قديماً.
العمل الجديد للزيدي هو محاولة لفهم جزء مهم من الثقافة الشعبية في العراق متمثلاً بالنكتة، الكتاب ليس رواية أو مجموعة قصصية إنما هو سرد لرحلة قام بها الكاتب الزيدي سيراً على الأقدام نحو أحياء بغداد الشعبية، أحياء قديمة كانت شاهداً حي على تحولات تاريخية وسياسية واجتماعية مرت على العراق خلال العقود المنصرمة.
الأحياء الشعبية البغدادية تخفي وراء شناشيلها وجدرانها الكثير من القصص والأسرار التي كشف النقاب عنها قلم الزيدي متجولاً في دهاليز الثقافة الشعبية البغدادية باحثاً عن كل ما هو غريب غير مألوف، عن كل ماهو نتاج سنوات الصراع والحصار والقمع والتهميش.
إن النزول إلى عمق الثقافة الشعبية ليس بالمهمة السهلة خصوصاً في بلد مثل العراق، بلد يعيش الأزمات منذ عقود متتالية وما خلفته من انعكاسات سلبية على واقع الإنسان العراقي الذي أخذ يجنح نحو أسلوب النكتة والفكاهة أمام أية أزمة تعصف به، نكتة هي في الظاهر مضحكة لكن في الباطن تشعر القارىء بالألم.
الشخصيات التي صادفها وكتب عنها الزيدي في رحلته المشوقة ليست شخصيات عادية فحسب فوراء كل شخصية ثمة بكاء وكلمات وأحلام مقتولة وطموحات مسحوقة تحت أقدام الواقع المر. إنها شخصيات المناطق والأحياء المنسية في بغداد كباب المعظم والباب الشرقي.
كما كتب نجيب محفوظ عن المهمشين في الحارة المصرية، كتب الزيدي عن المهمشين في الأحياء البغدادية المنسية.
خضير فليح الزيدي من مواليد مدينة الناصرية جنوب شرق العراق، يهتم بالكتابة السردية ما بين الرواية والقصة والكتابة والسرد الغير مجنس له إصدارات عديدة في الرواية العراقية منها "شرنقة الجسد" و"خريطة كاسترو" و"ذيل النجمة" و"فندق كويستان" و "أطلس عزران البغرادي" بالإضافة إلى نتاجات أخرى منها قصص زوال وأمكنة تدعى نحن وتمر ولبن وسلة مهملات والباب الشرقي.
مملكة الضحك والسرد السائب...
يرى خضير فليح الزيدي أن تجربة الكتابة عبر تقنية السرد السائب تعد تجربة جديدة في العراق.
ويضيف في حوار أجريته معه" بالنسبة لي ككاتب أكتب القصة والرواية والكتب السردية الغير مجنسة، أميل لإيجاد منطقة سردية خاصة بما ذهب إليه كاتب المملكة من حيث البحث عن ملائمة سردية بين المتن الفكاهي واكتشاف المناطق التحتانية لمجتمع الباب ولغة السرد وتجنيسه، هي منطقة خام في تنويع فنية السرد غير الاشتراطي أو الخاضع تحت عباءة تنظير بذاته. ويؤكد أن تجربة السرد الهلامي، السائب ربما قد سبقونا إليه في التجارب العالمية السردية والحداثوية أما في العراق تحديداً تعتبر هذه التجربة فيها من الحداثة والاكتشاف أكثر من التطابق مع تجارب أخرى.
رحلة بحث أنثروبولوجي
ربما يتساءل القارىء لماذا منطقة الباب المعظم والباب الشرقي بالذات دون الأحياء الشعبية البغدادية الأخرى، وفي ذلك يقول الزيدي "إن أدب الرحلات المعاصرة تختلف عن كل المتون الرحلوية التراثية، هنا يكمن موضوع غاية في الدقة، في اجتذاب القارىء لمناطق مألوفة ربما يمر عليها كل يوم ولم يلتفت إلى ما ذهبت إليه فكرة الرحلة الغرائبية في استنطاق المكان والشخوص معا في منطقة تعد هي مركز بغدادي خطير في تفسير الظواهر المجتمعية وما يصاحبها من سلوكيات تطبع ببصمتها هذان المكانين من باب المعظم حتى منطقة الباب".
اختار الزيدي منطقة الباب المعظم والباب الشرقي لأنهما وحسب ما يراه "تحملان الكثير من أسرار مركزة من تمظهرات بشرية في مساحة محدودة وقد تحولت من هامش متوار إلى مركزية في سلوك وتصرفات الإنسان العراقي المستلب والذي وجد في بؤرة بغداد القديمة تألفاً غريباً مع سكان المنطقتتين، الرحلة كانت عبارة عن بحث أنثروبولوجى عن الإنسان وحكايته ومكانه الأثيري الأليف".
مملكة الضحك.. مرجع أدبي لدراسة ظواهر السلوك
الكثير من ظواهر المجتمع العراقي يراها البعض غريبة وما زالت بحاجة إلى تفسير لسلوكيات الفرد العراقي.
وهذا ما أشار له الزيدي خلال الحوار "أنا كاتب القصديات المبيتة. لا أكتب على وفق تأثيرات الانفعال الآني. أعمل على إزاحة العاطفة من اشتغالاتي السردية وأدع العين الواعية تكتشف بوعي ومبضع جراح لتشريح بطون المجتمعات والنزول القصدي إلى قيعان سحيقة من المجتمعات الهامش، فهي بنظري تمثل حقيقة سلوك المجتمعات المنفلتة عن التفسير، فالكثير من ظواهر المجتمع العراقي بقيت خارجة عن التفسير المنطقي في السلوكيات العامة، وما كتاب مملكة الضحك إلا محاولة جادة في كشف الأغوار".
ويضيف " ربما لا يدرك أحدُ ما يرمي إليه الكتاب الآن وأنا على يقين أن هذا الكتاب سيحقق ما رميت إليه بعد نصف قرن أو أكثر كمرجع أدبي دقيق لدراسة ظواهر السلوك، ذلك أن مهمتي كانت شاقة جداً في تحويل الأفكار الفلسفية والمفاهيم العامة في علم الاجتماع والانثروبولوجيا إلى حكايات مرسومة بنهج سردي خاص، تلك المشقة أنا على يقين ستأتي ثمارها ولو بعد حين".
مملكة الضحك وأهمال وحدة الزمن...
لا يوجد زمن محدد ينتمي إليه كتاب مملكة الضحك مع بقاء الأمكنة والشخصيات والأحداث، وعن ذلك يؤكد الكاتب خضير فليح الزيدي إنه" لا يوجد زمن محدد ينتمي إليه الكتاب حيث أنني أهملت وحدة الزمن الجوهرية وأبقيت على المكان والشخصيات والأحداث، بذلك كانت محاولتي لكسر فينة اشتراطات الرواية في تدشين نمط من الكتابات تنتمي ولا تنتمي إلى الرواية الحداثية، لكن بالمقابل تجد أزمان متحولة وغير محددة في كتاب مملكة الضحك، تجد حقب تاريخية ولا تقف عندها كثيرا، إنما تأخذ الكتابة وتجردها من وحدة الزمن لتكون طازجة تصلح لأي زمن ولى أو لاحق".
أناس يخافون من الإفراط في الضحك...
الصراعات والأزمات والحروب تركت تأثيرها المطلق في تكوين الشخصية العراقية وما اتسمت من سلوكيات قد يراها البعض غريبة وغير قابلة للتفسير حتى في حالات المرح والمزاح والضحك ترى العراقي بعد كل ضحكة يردد عبارة (خير إن شاء الله) وكأنه يخاف اللحظات المقبلة وما تحمله معها من مفاجآت، وهذه نقطة أشار إليها خضير فليح الزيدي في كتابة مملكة الضحك وحولها يقول "أن للاستلاب والقمع غير الممنهج تبقى سطوته على الخوف من السلطة. وما مفهوم الضحك إلا مفهوماً ميتافيزيقيا متحولا من نظريات الفلسفة الحديثة، لذلك وجدت في رحلتي تلك أن سكان منطقة الباب هم أناس يخافون من الإفراط في الضحك وتأثيرات الغيبيات في الإفراط فيه، لكنهم بالمقابل يصنعون في مختبراتهم مفاهيم جديدة للضحك من جانب آخر، ومن دون الإيغال خوفا من الانتقام غير المرئي.
إن سكان منطقة الباب هم أناس قدريين بالفطرة، وما المستقبل بالنسبة لهم سوى ضربا من اللا جدوى، هم أناس لحظويين ينتمون إلى يومهم ولحظتهم فقط ليس لهم علاقة بالماضي ولا وجود للمستقبل في مخيلتهم. الضحك كما قلنا هو منهج في النظريات الفلسفية الحديثة عند هنري برجسون يختلف عما ذهب إليه جاك دريدا مثلا. الشعوب الضاحكة ليست هي الشعوب السعيدة، والسعيدة منها هذه ربما تكون أكثر جدية في الحياة والعمل وأوقات الراحة، الفكاهة والمرح والضحك هي مفردات كل واحدة تحمل مفهوما مختلفا عما تذهب إليه مفاهيم أخرى في شعوب أخرى.
لدى سؤالي له حول ولادة النكتة من رحم المأساة في العراق يرى الكاتب خضير فليح الزيدي أن "النكتة نسق مضمر في الدراسات الثقافية الحديثة لأن ثمة معامل لانتاجها تعمل على مدار الساعة والسنين، النكتة لا تتوقف مطلقا لكنها تجدد آليات خطابها مع العصر والبيئة والفضاء الجامع لها".
ويضيف " كل النكات على مستوى العالم لا يوجد مؤلف معلوم لها، النكتة تختفي خلف مؤلف مجهول غالبا لايظهر مطلقا ويريد التظاهر والنجومية، لأن النكتة تتحور لتطابق جماعة معينة، والنكتة تحدث نفسها من الداخل، تتحول ربما إلى تحشيشة قصيرة المدى تعتمد تفجير اللغة والعمل على تناقضاتها لتفجير مستوى معين من الضحك".
ويؤكد الزيدي أن "النكتة شقيقة الضحك والهههاي، فكل نكتة لا تطلق الضحك ذلك مؤشر لخلل ما في راويها أو أدواته القاصرة أو مستوى متراجع لسامعها أو ربما خلل ما في محتواها، النكتة صنو المأساة وهي تعمل على مساحة التناقضات وفك الارتباط مع قوة حزن المأساة لتحويلها إلى هههاي عظيمة لأن النكتة تعمل على ثلاثة مستويات فقط، أما نكتة جنسية تميط اللثام عن المسكوت عنه في أسرار الجنس، أو نكتة دينية تميط اللثام عن الشخصيات الدينية التي تحمل بؤر التناقض في سلوكياتها، أو نكتة سياسية تشتغل على كشف المستور في أروقة وبلاطات وقصور السياسيين، وكلها تشتغل على نقد تلك الفئات بكوميديا سوداء. أن النكتة نقد مبطن بطريقة فكاهية للمجتمعات.
سبق وأن أصدر الكاتب خضير فليح الزيدي رواية بعنوان ( الباب الشرقي) وصولاً لكتاب مملكة الضحك ولعل قارئ يسأل لماذا الكتابة عن منطقة الباب الشرقي بالذات وهنا يجيب الزيدي بأن "الكتابان الأول يكمل الآخر، ولكن مجال وحيز الاشتغال يختلف بين الكتابين، حيث أن الأول كان أدبياً خالصاً والثاني كتاب ينتمي إلى الحيز الانثروبولوجي في تفجير بؤرة الحكاية. أنا أميل في طبيعتي لكشف المستور من خلفيات المجتمع، ضالتي الكبيرة هو في تلك المناطق التي تصدر الى المجتمع سلوكيات متطورة او متحورة فهي غالبا ما تتحول من هامش بسيط الى مركزية مجتمعية وتلك قضية مهمة في تأثيرات ما بعد الحداثة في الأدب، الثقافة العالمية هي ثقافات شعبية معظم القراء يميلون إلى تناول هذا النوع من الكتب لندرتها أولا وخفة روح المرويات فيها".
كيف ترى الرواية الآن وهل كل ما يكتب من روايات يسمى رواية ؟
لا مجال لنكران أن الرواية العراقية قد دخلت عصر نهضتها الذهبي. تنوعت وتعاظمت قدرتها على محاكاة الرواية العالمية أو العربية الحديثة والمتطورة في نبش تاريخ وماضي الشعوب، على الرغم من ضعف في بعض النصوص الروائية الصادرة، الرواية لها سوق رائج في القوت الحاضر، وهي تعد انتاج التاريخ المعاصر من خلال الأدب وتلك ميرز حميدة في قراءة الشعوب وأنماط سلوكياتها وحركة تطور أو هبوط تفكيرها أو حركتها المحيطية.
كاتب ترك تأثيره على خضير فليح الزيدي؟
في مجالي السردي فلسفة هذا النوع من السرديات المجنسة ثمة تأثير عظيم لرولان بارت وخاصة في كتابة الاسطوريات فهو من الكتب ذات التأثير الكبير في حياتي الثقافية والادبية.
أثناء تجوالك في مملكة الباب هل واجهتك بعض المواقف من سكان المملكة؟
وجدت العجب العجاب في مملكة الباب شخصيا. لقد عايشت سكان هذه المملكة لأوقات وأزمان مختلفة. بل قرأت عنها من أبي نواس الشاعر الكبير والذي كان يمر بهذه المنطقة والتي كانت تسمى "بكلوذ اري" ثم ينطلق إلى ضفاف نهر دجلة في منطقته المعروفة اليوم بأسمه. تعرضت إلى سرقة هاتفي مرة كما مذكور في كتابي الأول الباب الشرقي، وتعرضت إلى سرقة محفظتي بطريقة السنارة- المكتشف الحديث في السرقة-من خلال جماعة لصوص النهار الظرفاء. ألم أقل لك إنها مملكة عجيبة، فهي لا تقبل بالطارئين لها إلا بعد اختبارهم وتزكيتهم للتعايش على أرضها.
إعداد: رامي فارس اسعد
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن