زاكروس عربية- أربيل
الحديث عن أطول رواية في عالم الرواية العربية وعن ملحمة المتاهات( متاهة ادم ومتاهة حواء متاهة قابيل متاهة الأشباح متاهة ابليس متاهة الأرواح المنسية متاهة العميان متاهة الانبياء متاهة العدم العظيم) للشاعر والروائي العراقي برهان شاوي يطول ويطول لدرجة ربما لا نكتفي بحوار واحد أو عشرة ذلك أن المادة الأدبية التي وضعها شاوي على شكل المتاهات بين أيدي القراء ليست بالقصيرة ولا بالسهلة ولا هي مجرد قصة أو رواية عابرة تقرأها وتندمج في أحداثها وتعيش مع أبطالها ومن ثم يطويها النسيان بل هي مادة تحتاج للكثير لفهمها والغوص في أعماقها وليس للقراءة فقط.
حتى الآن كتبت العشرات من الدراسات النفسية والنقدية وأجريت العشرات من الحوارات مع المؤلف وأبطاله في متاهاته التسعة وربما هنالك المزيد لأن عالم المتاهات هو عالم وجودي، عالم قائم بذاته ولد من رحم الواقع رغم تداخله في اللاواقع، هو عالم ربما عشته أنا وغيري دون أن نشعر به أو دون نتوقف لثواني لنفكر من جديد.
لقد اقتحم شاوي في ملحمته الكبيرة أسوار عالم لم يكن متاحاً من قبل، عالم نشأنا وتربينا داخله ضمن حلقة مغلقة، نقطة انطلاقها كانت من المقدس والحلال والحرام ويجوز ولا يجوز، عالم رغم ما فيه من قدسية ونقاوة إلا أن كل شيء فيه مبني على أساس هش، أساس أركانه الزيف والخداع، ما كنا نؤمن به في لحظة ما ربما بعد قراءة متاهة من المتاهات ينقلب كل شيء يجعلنا بعد ذلك نتسأل ونتسأل وكننا في متاهة أسئلة لا نهاية لها.
كتب برهان شاوي المتاهات، متاهات الجحيم ليكشف بذلك عن قناع هائل، قناع مرعب نرتديه ويرتديه العالم من حولنا وربما قد نعجز عن انتزاعه مدى الحياة. قبل كتابة المتاهات ابتدأ برهان شاوي مسيرته الابداعية بالشعر ليحط بعد رحلة طويلة في عالم الرواية وكانت روايات الجحيم المقدس واستراحة مفيستو ومشرحة بغداد أولى أعماله الروائية قبل أن يشرع بكتابة متاهات الجحيم التي جاءت بتفاصيل مزدحمة وأفكار عميقة وأسلوب عذب وثراء برؤاها الفلسفية والنفسية.
القسم الأول من الحوار التالي مع الصديق والشاعر والروائي برهان شاوي حول المتاهات، والشخصيات منآاوادم وحواءات...
المتاهات" أطول ملحمة روائية في الرواية العربية، ما الذي ميزها عن الأعمال الروائية الأخرى قديماً وحديثاً ؟
الحقيقة إن هذا السؤال يفترض أن يوجه للنقاد والباحثين وليس لي، لكن من جانب آخر أنا أعرف بالتقنيات التي استخدمتها في كتابة مشروعي الروائي. فمن ناحية التميز يمكن التوقف عن أسماء الشخصيات الروائية على امتداد (13) ثلاث عشرة رواية موحدة وتحمل اسم (آدم) للذكور مع لقب لها، وأحيانا نادرة استخدم اسم قابيل أو هابيل، وكذا الأمر مع الأسماء النسوية فهي موحدة، (حواء) وقليلا ما استخدم (إيفا) إذا ما كانت مسيحية أو امرأة أوربية، و(إيفا) هو المقابل التوراتي لحواء. وربما تتميز بطولها، فهي ملحمة روائية يتحرك فيها (304) شخصية روائية مسمّاة، بينها (119) شخصية نسوية. ناهيك أن " المتاهات" تتناص مع القسم الأول من ملحمة " الكوميديا الإلهية" لشاعر إيطاليا الأكبر دانته إليغيري، واقصد هنا القسم الأول من الملحمة (الجحيم).
لدى كتابة السطر الأول من المتاهة الأولى "متاهة آدم"، هل كنت تتوقع أنها ستتمدد لتكون تسعة متاهات متتالية ؟
أبدًا، لم يطرأ في ذهني ذلك أبدًا. لكن في اللاوعي كان ثمة سرد روائي يمتد ويمتد وشخصيات تظهر وأخرى تختفي، فما أن أنتهي من متاهة حتى أجد إنني لم أقل كل شيء، لذا أواصل الحكاية وتداخلاتها. وقد انتبهت إلى ذلك حين وصلت المتاهة الخامسة (متاهة إبليس)، والتي معظم أحداثها تجري في فلورنسا، مدينة دانته إليغيري، وكنت حينها أجلس في مقهى قرب بيته الحقيقي الذي تحول إلى متحف. وهناك انبثقت فكرة التناص مع (الجحيم)، وانتبهت إلى ما وراء المتاهات الأربع السابقة من تناصات لاشعورية مع الجحيم.
الموت كان رفيقاً للكائنات الحزينة في المتاهات، هل ذلك على اعتبار الموت الحقيقة المطلقة أم هي نهاية متوقعة لأبطال عاشوا في ظروف نفسية واجتماعية سيئة؟
الرأيان صحيحان كلاهما. الموت هو الحقيقة المطلقة في الحياة من جهة، وهو نهاية مأساوية لمعظم شخصيات المتاهات، من حيث إننا نعيش في ظل ظروف قاسية لا قيمة فيها لحياة الإنسان، يقتل بسبب أبسط الأشياء. انفلات العنف الطائفي والمذهبي والقومي، واستيقاظ الزمبي في الحشود، بحيث صار الاختطاف والتعذيب والاغتصاب والفقدان والموت المجاني سمة في مجتمعاتنا شرق الأوسطية. وقد قدمت النهايات المأساوية بمختلف أسبابها.
أين أجد برهان شاوي من بين عشرات ومئات الآوادم؟
لن تجده كشخصية روائية، لكن يمكن أن تجد تجليات له ولفكره في هذه الشخصية أو تلك بما فيها الشخصيات النسوية. لكن أقرب شخصية لي كبرهان تجد بعض تجلياتها الفكرية في شخصية " آدم الأكويني" ب "متاهة العدم العظيم".
بدأت رحلتك في عالم الإبداع بكتابة الخواطر التي وصفتها بـ (خواطر جبرانية)، وتحديداً الشعر ومن ثم استقر بك الترحال في عالم الرواية، هل سبب ذلك إنك وجدت في عالم الرواية مساحة اوسع للتعبير أم أن العصر هو عصر الرواية أكثر من الشعر والخواطر والقصة ؟
الملاحظة الأولى هي الأصوب. لقد وجدت عالم الرواية أرحب بكثير من فضاء القصيدة أو الخاطرة.
في أحد حواراتك السابقة، ذكرت أن المشاكل الوجودية البشرية واحدة، وأنت انطلقت من العراق بيد أنك بدأت برحلة طويلة المسافات في الآفاق والجغرافيا، لماذا العراق بالذات؟
بكل بساطة لأن العراق هو الذي يؤثث ذاكرتي الأولى وأعرفه جيدا، ومنه تعرضت كشخص للاعتقال والتعذيب.. وهجر أهلي إلى إيران وصودرت أملاكهم.. فيه عرفت القراءة والكتابة ..ومنه أنهل حكاياتي.. ثم توسعت الدائرة الجغرافية ارتباطا بمغادرتي العراق وتنقلي بين البلدان وتعرفي على الشخصيات والثقافات المختلة..!
كشفت سلسلة المتاهات عن معظم الأسرار التي نسعى لإخفائها مهما كلفنا ذلك، ولعل ذلك قد وضعك في موقف صعب أمام البعض، أذكر لنا موقفاً مر بك منذ كتابة المتاهة الأولى وصولاً للأخيرة؟
نعم.. واجهت صعوبات كثيرة أثناء كتابة المتاهات ونشرها، وأبسطها أنها منعت في عدد من البلدان العربية، حيث لا توزع إلا في معارض الكتب السنوية. بل على المستوى الشخصي، لاسيما بعد صدور متاهتي الأولى " متاهة آدم" كانت ردود الأفعال من بعض " القرّاء والقارئات" متشنجة جدًا، وأصولية، ومتطرفة، وتصل إلى حد الإساءة الشخصية والشتيمة، لاسيما من النساء، حيث اعترضن على بوح الحواءات في الرواية وعلى المشاهد المكشوفة فيها. لكن الغريب أن معظم من اعترضن صرن من المتحمسات للمتاهات بل وحتى لمشاهدها المكشوفة، وبينهن من أخذن يسردن قصههن، ومنهن من وددن أن يكن كشخصيات روائية في المتاهات، وهذا ما حصل فعلًا. لكن الأغرب من ذلك هو موقف الأدباء العراقيين منها، بل والجامعات العراقية، فذات مرة كتبت لي إحدى طالبات الماجستير بأنها اخترت الكتابة عن "المتاهات"، وحين طرحت العنوان على اللجنة في البداية، لكن عميد الكلية الذي حضر جلسة مناقشة اختيار العنوان فرفض العتوان، بل رفض تناول أعمالي وقال لها بالحرف الواحد كما نقلته لي: " على جثتي تدرسين أعمال برهان شاوي. روحي اقري رواية " متاهة ابليس" وبعدين تعالي قولي أريد أدرس أعماله. هذا واحد معادي للدين".. مهزلة.، فدافعت الطالبة وقالت يمكننا أن نرد عليه ونفكك أعماله إذا كان الأمر كذلك، لكن رفض رفضا قاطعا دراسة رواياتي، علما أن "المتاهات " نوقشت من خلال 15 رسالة ماجستير ودكتوراه في الجامعات العربية.
ما الذي يدفع الأشخاص للاعتراف من على كرسي المتاهات؟
الحقيقة حين بدأت كتابة المتاهة الأولى " متاهة آدم" لم يكن هناك من يجلس ويعترف، وانما اعتمدت على ذاكرتي ومحيطي، واستدعيت لذاكرتي أشخاص أعرفهم جيدًا وأعرف مشاكلهم، لكن بعد "متاهة حواء" بدأ بعض القراء والمتابعين يدخلون علي بشكل خاص في " الفيسبوك" و" الواتساب" و" الفايبر" ويناقشونني عن الشخصيات والأحداث وإعجابهم بهذه الشخصية أو تلك، وتقارب قصصهم معها، وبينهم من كان متشنجا مع متاهة آدم، وحين أسأل عن أوجه التقارب بينهم وبين الشخصيات، يبدؤون بسرد قصصهم، وحين أجد قصصهم درامية فعلا وتختلف في خصوصيتها عن شخصياتي الروائية عندها أسألهم إن كانوا يرغبون بإدخال حكايتهم من خلال شخصية روائية، على أن أحفظ سرية هواياتهم الشخصية و اتعهد بالأمان لكل ما يروونه لي. ولحسن الحظ وافق أغلبهم، وهكذا تناسلت الشخصيات، ومن هنا فكل الشخصيات حقيقة. (304) شخصية اخترتها من بين المئات إذا لم أقل الآلاف ممن حاورتهم..! بل هناك كاتبات روائيات عربيات أحببن أن أدخلهن كشخصيات روائية، لأنهن يعرفن أسلوبي الروائي والجريء والمتوغل في التابو وهن غير قادرات على ذلك بحكم وضع المرأة الكاتبة في عالمنا العربي، وهذا ما حدث فعلا..
هل واجهت صعوبة في نسج هذا الكم الهائل من الحوارات والاعترافات والمواقف؟
بالتأكيد.. وموهبة الكاتب تكمن هنا، أي في كيفية تنسيق السرد من خلال ظهور واختفاء الشخصيات، وضبط الحوارات، وتشذيبها وتحريرها. والحقيقة إن مهنة الكاتب الروائي تشبه مهنة الحائك، فذاك يجلس أمام نوله، ويربط عدته بكريات الغزل الملونة، التي هي تمثل الشخصيات وحكايتهم وحواراتهم، وهو يربط كل الخيوط لهذه الكرات الملونة ويبدأ بالنسج، وفي النهاية يكون أمامنا بساط أو سجادة لا علاقة لها بكل حوارات الشخصيات المنفردة، فكل كرات الغزل الملونة تداخلت فيما بينها لتشكل لنا هذه السجادة.
كاتب عالمي ترك تأثيره على مسيرة برهان شاوي الروائية؟
كثيرون من تأثرت بهم ..وتعلمت منهم ..ولو عددت لما انتهت قائمتي بسهولة.. لكني اعتبر مرجعياتي الأدبية هم: دستويفسكي، ستندال، تشيخوف، لورنس، أميل زولا..تورغينف..وغيرهم.
بغداد عاصمة العراق هل تراها مدينة، مدنية أم دينية أم مدينة الفوضى؟
هذا سؤال يحيل إلى الواقع السياسي الموجود.. لكن بغداد تبقى مدينة اسطوري، مدينة الحلم .. مدينة الشعراء والحكايات السحرية التي وردت في ألف ليلة وليلة.
هل ترى أن المتاهات قد أجابت على سؤال أزلي نسأله دائماً وأبداً عن (معنى الحياة) ؟
لا .. المتاهات تسعى لطرح السؤال عن (معنى الحياة) ولا تعطي أية إجابة. إعطاء الإجابات ليست مهمتي، مهمتي دفع القارئ إلى التفكير والسؤال.
حوار وإعداد: راميار فارس
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن