كنت ألعب لعبة الـ(توكي( في باحة منزلنا القديم، ارمي قطعة الحجر بين المربعات التي رسمتها على الارض، عندما كنت اسمع صوت ابي يقول : البلبل الفتان.. يطير في البستان.. غنى على الاغصان.. باعذب الالحان ..وانني فرحان بصوته الرنان.. والخوخ والرمان.. والعنب والريحان..،
ومن خلفه يردد صوت اخي الذي كان يكبرني عاما، بصوت مخنوق مغمّس بالأخطاء التي لا تعد ولا تحصى. مزقت أثواب القصيدة، بينما تداخلت حشرجة صوت اخي واختلاط دموعه مع سوائل انفه، مع أبيات القصيدة في بعضها البعض، عبثا كان يحاول والدي جعله يردد البيت الواحد دون خطاء، وما زاد الامر سوءا وتعقيدا سورة الغضب التي استبدّت بأبي، بالكاد أمسك نفسه عن ضرب اخي، وازدادت مع الوقت وتيرة صوته علوا، وارتفاعا كما تطاير الشرر من عينيه وازدادتا لمعانا.. فمالبث أن صرخت : مابك يا اخي ان بابا يقول : البلبل الفتان، يطير في البستان.... الى اخر القصيدة، اتممتها دون اخطاء او تلكؤ او تصحيح،
التفت إليّ والدي وقال : متى تعلّمتها يا ابنتي؟
فانا واخي كنا في نفس الصف، ولكن في مدرستين منفصلتين، ولم يكن لنا عهد كبير بالمدارس المختلطة في حينها، اضافة الى انهم جعلوني اكسب عاما دراسيا لصغر سني.
أجبته : لم نأخذها يا ابي.
فقال: كيف قرأتها اذا !
قلت: حفظتها منك توا ياأبي عندما كنت العب.
اغتاظ أبي اكثر وبدأ بالصراخ ، وبنبرة غاضبة وحالة هستيرية قال له، بعد ان باغته بضربات متلاحقة أصابت اجزاء من جسده :
اختك الصغرى حفظتها وهي لم تاخذها وانت!.. اهلكتني ولم تخفظ بيتا واحدا.
جلست في حافة باحة المنزل وانا ابكي، واطلب من الله الصفح ومن اخي الغفران، فلقد تسببت بصفعه وايذائه ونعته بالغبي، انه اخي الذي احبه، هذه اذا خيانتي الاولى وذنبي الذي لا يغتفر اخي الحنون، الذي اشتاق له دائما لطيبة قلبه، لحبه للمرح والضحك واللعب ولجلسات الهزل، اشتاق لمزاحه ومشاكساته وحبه للمغامرة.
مرت السنوات مسرعة..كبرنا، بدات الحياة تطحننا وتقذفنا نواعيرها حيثما تشاء، لكل منّا حمله، عائلته، مشاكله، لكن هذا لم يحد من قوة الشوق والحب الذي أكنه له.. . انه اخي الضابط الكبير، لم يعد يسأل عني مؤخراّ، احتجته كثيرا في ايامي العصيبة، ومحني وفي ايام التهجير التي شهدتها.
احتجته وانا على مشارف الموت مرات عديدة، اما بسبب المرض او بسبب ماجرّته الحروب علينا من حزن ومآسي، لم يعد يسأل، وبالكاد كان يرد على مكالماتي عندما يدفعني الشوق له.
سأسامحك يااخي لقلة وصالك وعدم السؤال، اسامحك على قطيعتك رغم ترددي عليك، على ما احمل من هموم تنأى عنها الجبال، سابقى اتمنى لك الخير واسال عنك، كن مطمئنا سأسامحك دوما.
لكن اخبرني هل ستسامحني على هفوة البلبل الفتان ؟؟؟
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن